اخبار لبنان
موقع كل يوم -وزارة الإعلام اللبنانية
نشر بتاريخ: ٣ كانون الأول ٢٠٢٥
كتبت الدكتورة فيولا مخزوم مقالا تحت عنوان “كيف تغيّر البيانات قواعد المنافسة الاقتصادية عالميًا؟”، اوضحت فيه كيف أن الشركات التي تمتلك القدرة على جمع البيانات وتحليلها واستخدامها بذكاء تُحقق مستويات أعلى من الإنتاجية والابتكار مقارنة بتلك التي ما زالت تعتمد على الأساليب التقليدية في إدارة مواردها، وجاء في المقال:
تتغير قواعد المنافسة الاقتصادية بوتيرة غير مسبوقة حين تتحول البيانات إلى العنصر الأكثر تأثيرًا في قيادة الأسواق وصناعة القرارات الاستراتيجية. وتُظهر التحولات الأخيرة أن الشركات التي تمتلك القدرة على جمع البيانات وتحليلها واستخدامها بذكاء تُحقق مستويات أعلى من الإنتاجية والابتكار مقارنة بتلك التي ما زالت تعتمد على الأساليب التقليدية في إدارة مواردها. ويتجه العالم بسرعة نحو منظومة اقتصادية جديدة لا تعتمد فقط على رأس المال والبشر، بل على البيانات التي تُعد الآن المحرك الأساسي للميزة التنافسية.
وتتعاظم أهمية البيانات عندما تستخدمها المؤسّسات في تحسين عمليات الإنتاج والخدمات، فالشركات لم تعد تستند إلى الحدس وحده في تحديد توجهاتها المستقبلية، بل تدمج البيانات الضخمة في قراراتها اليومية، ما يمنحها رؤية دقيقة حول احتياجات المستهلك وسلوك السوق. ويزداد دور التحليلات المتقدمة والذكاء الاصطناعي في تحويل البيانات الخام إلى معرفة قابلة للتطبيق، وهذا ما يمكّن الشركات من اكتشاف الفرص قبل منافسيها، والتنبؤ بالاتجاهات الاقتصادية، وتصميم منتجات تستجيب مباشرة لاحتياجات العملاء.
كما تسهم البيانات أيضًا في إعادة تعريف مفهوم القيمة داخل السوق. فالشركات التي تنجح في تحويل بيانات المستخدمين إلى منتجات وخدمات ذات قيمة مضافة تسبق منافسيها بخطوات كبيرة. ويتجلى ذلك في القطاعات الرقمية مثل التجارة الإلكترونية والخدمات السحابية والنقل الذكي، حيث تحقق الشركات الكبرى ميزة مستدامة لأنها تعتمد على كميات هائلة من البيانات التي تزودها برؤية شاملة للسوق. وتُظهر التجارب العالمية أن المؤسّسة التي تسيطر على تدفق البيانات غالبًا ما تسيطر على السوق نفسها، كما هو الحال مع شركات التكنولوجيا العملاقة التي تعتمد على نماذج أعمال مبنية بالكامل على تحليل البيانات.
وعليه، تفرض البيانات تحولات جذرية على نماذج المنافسة التقليدية. فقد أصبح الدخول إلى الأسواق الجديدة لا يعتمد فقط على رأس المال، بل على البيانات التي تتيح فهمًا عميقًا للفجوات والفرص. وتتمكن الشركات الناشئة اليوم من منافسة مؤسّسات عريقة لأنها تستثمر في تقنيات تحليل البيانات التي تمنحها مرونة أعلى وقدرة على التكيف. ويظهر ذلك في قطاعات مثل التكنولوجيا المالية، حيث استطاعت شركات صغيرة تقديم خدمات تفوق المصارف التقليدية لأنها تمتلك نماذج تحليل أكثر دقة للتعاملات المالية وسلوك العملاء.
لذلك، تؤثر البيانات بشكل مباشر في طريقة تصميم المنتجات. فالمؤسّسات التي تُجري تحليلات مستمرة لسلوك المستخدمين تطور منتجات وخدمات تتوافق مع توقعاتهم بشكل شبه فوري. ويبرز هذا التوجه في شركات الخدمات الرقمية التي تُحدّث نماذجها باستمرار باستخدام آليات التعلم الآلي، ما يمنحها قدرة على تقديم خدمة شخصية لكل مستخدم. ويُعد هذا النوع من التخصيص عنصرًا رئيسيًا في المنافسة الحديثة، إذ أصبح المستهلكون يتوقعون خدمات سريعة ودقيقة ومصممة حسب احتياجاتهم الفردية.
وتدخل البيانات بقوة في تحسين سلسلة القيمة داخل المؤسّسات. فالشركات التي تعتمد على البيانات في إدارة المخزون، ومراقبة الجودة، وتوقع الأعطال، وتقليل الهدر، تُحقق مكاسب اقتصادية تفوق تلك التي تعمل بأساليب تقليدية. وتُستخدم البيانات كذلك في تطوير شبكات لوجستية أكثر كفاءة، كما هو الحال في شركات النقل العالمية التي تعتمد على خوارزميات متقدمة لتحديد أفضل المسارات وتقليل وقت التوصيل. وتنعكس هذه التطورات على خفض التكلفة وزيادة القدرة التنافسية.
إنّ تطور المنافسة الاقتصادية عالميًا مرتبط بصورة مباشرة بالقدرة على إدارة البيانات عبر الحدود. فالدول التي تضع سياسات واضحة لإدارة البيانات وتحفيز الابتكار الرقمي تجذب مزيدًا من الاستثمارات. وتتجه الحكومات نحو بناء أطر تشريعية تربط بين حماية الخصوصية وتسهيل تداول البيانات. وتظهر التحديات في هذا المجال عندما تتصادم سيادة البيانات مع الحاجة إلى التعاون الدولي، ما يفرض على الدول إعادة النظر في كيفية تنظيم البيانات بما يضمن الأمن الرقمي والازدهار الاقتصادي في آن واحد.
كما أنّ الشركات الكبرى تستغل البيانات لبناء احتكارات رقمية يصعب منافستها. فامتلاك بيانات شاملة عن المستخدمين يمنح تلك الشركات قدرة على تقديم خدمات متكاملة تتخطى قدرات اللاعبين الآخرين في السوق. وتثير هذه القوة تساؤلات عالمية حول عدالة المنافسة، خاصة عندما يؤدي تراكم البيانات إلى إقصاء الشركات الأصغر التي لا تمتلك القدرة على جمع ومعالجة بيانات ضخمة. وتعمل الجهات التنظيمية حاليًا على وضع قوانين لمكافحة الاحتكار الرقمي بهدف منع تركّز البيانات في يد عدد محدود من الشركات.
وتنعكس قوة البيانات على التحولات التي تشهدها الأسواق المالية. فالمستثمرون يعتمدون على البيانات الضخمة في بناء محافظهم الاستثمارية، وتحديد المخاطر، وتحليل توجهات الشركات. ويظهر ذلك في انتشار التداول الخوارزمي الذي يعتمد على تحليل كميات هائلة من المعلومات لحظة بلحظة، ما يمنح المستثمرين المتقدمين تقنيًا قدرة على تحقيق مكاسب سريعة لا تتاح لغيرهم. وتؤدي هذه الظاهرة إلى توسيع الفجوة بين المؤسّسات التقليدية وتلك التي تستثمر في التقنيات الحديثة.
من هنا تنشأ منافسة جديدة بين الدول على ما يسمى سيادة البيانات، حيث يتجه كل بلد إلى حماية بيانات مواطنيه باعتبارها موردًا استراتيجيًا. وتسعى الدول المتقدمة إلى بناء بنى تحتية رقمية قوية تحفظ تدفق البيانات وتضمن الاستفادة منها اقتصاديًا. وتعمل الدول النامية على تطوير قدراتها في هذا المجال، لكنها تواجه تحديات مرتبطة بنقص الاستثمار وضعف البنية التكنولوجية. ويؤدي هذا الوضع إلى تفاوت جديد في القوة الاقتصادية بين الدول، ليس بناءً على الثروات التقليدية، بل على القدرة على التحكم في تدفقات البيانات.
إنّ أهمية أخلاقيات البيانات تبرز كعامل مؤثر في المنافسة الحديثة، إذ تواجه الشركات التي لا تحترم الخصوصية خسائر كبيرة في الثقة العامة، بينما تحصد المؤسّسات التي تعتمد الشفافية مكاسب مستدامة. وتستدعي المنافسة العادلة وضع أطر واضحة لاستخدام البيانات تحدّ من إساءة استغلالها وتقلّل من مخاطر الرقابة الرقمية والتلاعب بالمعلومات. وتواصل المنظمات الدولية تطوير استراتيجيات تعزز الثقة الرقمية وتضمن الاستخدام المسؤول للبيانات.
حيث تتجه التوقعات المستقبلية نحو توسع أكبر في دور البيانات داخل السوق، ما يجعل الاستثمار فيها ضرورة لا خيارًا. وتفقد الشركات التي تتأخر في تبني استراتيجيات قائمة على البيانات قدرتها على المنافسة في وقت يتقدم فيه الآخرون بسرعة. ويستدعي هذا التحول بناء ثقافة مؤسّسية تقدّر قيمة البيانات وتركّز على تطوير مهارات العاملين في مجالات التحليل والذكاء الاصطناعي. وتشير التوقعات إلى أن السنوات المقبلة ستشهد انتقالًا نحو اقتصاد عالمي ترتبط فيه القوة التنافسية بالقدرة على تحويل المعلومات إلى قيمة اقتصادية قابلة للقياس.
وبناءً على ما سبق أتضح أن البيانات لم تعد مجرد أدوات تقنية، بل أصبحت ركيزة أساسية في تشكيل مستقبل الاقتصاد العالمي. ويعكس التطور المتسارع في التقنيات المرتبطة بها اتساع الهوة بين المؤسّسات والدول التي تستثمر في هذا المجال وتلك التي تتجاهله، ما يجعل القدرة على إدارة البيانات وتحليلها شرطًا رئيسيًا للبقاء في قلب المنافسة الاقتصادية الحديثة.











































































