اخبار لبنان
موقع كل يوم -ار تي عربي
نشر بتاريخ: ٣٠ تموز ٢٠٢٥
لم تتحقق أمنية زياد الرحباني العمل مع قناة 'آرتي' العربية، ولم يتحقق الاتفاق على إجراء حوار معه في بيروت.
في العام 2014؛ لم يعد زياد يتحمل المزيد من انقطاعات التيار الكهربائي في بيروت وتعطيل تدفق ألحان تزدحم في مخيلته ويعجز عن بثها في آلات ميتة بلا تيار.
أدرك زياد أن البلد غير قابل للإصلاح وأن فيروس الطائفية والنهب والسلب لا علاج له ولا لقاح وقائي منه بما في ذلك التبشير بالشيوعية التي اعتنقها نجل نهاد وديع حداد الساحرة الهادئة البعيدة عن الأفكار الثورية، وعاصي المشبع بأفكار الحزب السوري القومي الاجتماعي المتأثر بالأيديولوجية الألمانية.
دب اليأس إلى زياد، وكان يتجرع مرارة الواقع العربي واللبناني بالنكات والسخرية، وتمرين أنامله الطويلة الرشيقة على العزف المنفرد لروحه المعذبة.
اعتنق الصبي المدلل، ابن الأسرة المتفردة، الشيوعية بكل زعانفها الستالينية، حتى أنه اعتقد بأن القمع وتصفية الخصوم الأيديولوجيين، ممارسة طبيعية للدفاع عن 'الحزب والثورة'، فانسحب الاعتقاد إلى التعاطف مع نظام الأسرة الأسدية، وإحياء حفلات في ربوعها، وكذلك مع البعث الحاكم في العراق الذي أفلح في دعوة فيروز الرحابنة لإحياء حفلة في بغداد؛ لم يتمكن جمهور كبير من معجبي الصوت الإلهي من حضورها بسبب حواجز 'الحزب والثورة'.
انفجر زياد من اللهيب السياسي اللبناني ولغة الرصاص التي كان يمر بين شظاياها على مدى سنوات الحرب الأهلية؛ فقرر الهجرة إلى الشمال واختار موسكو عاصمة أول دولة شيوعية في الكون.
لم يأبه زياد بأن الشيوعية السوفيتية ماتت في موسكو، وأن الدولة الروسية لم ترث أيديولوجية الحقبة السوفيتية إلا فيما يتعلق ببعض الاتفاقيات الدولية، وأن اسم ستالين صار مرادفاً للْمَوْتُ الزُّؤَامُ، وأن فلاديمير بوتين يحمّل لينين مع البلاشفة وورثتهم تدمير الأمة الروسية وتمزيقها وتشكيل كيان مصطنع مثل أوكرانيا.
أجرى زياد اتصالات مع إدارة 'روسيا اليوم' لإبرام عقد عمل لم يتكلل بالنجاح، لأسباب ربما تكون إدارية بيروقراطية، لكنه بقي متحمسا لإجراء مقابلة مع القناة، واختار برنامج 'قصارى القول' منصة لإطلالة إلى جمهورنا.
استعد فريق البرنامج للسفر، وحجزنا التذاكر، وقبل السفر بيوم واحد، اعتذر زياد عن استقبالنا لأنه مرتبط بموعد مع فحوصات طبية.
أربك القرار المفاجئ خططنا وحاولنا تفسير التراجع بطبيعة زياد القلق المتردد دوما حتى في إجراء جراحة تخلصه من الكبد المنهك بآخرٍ نشط وفضل الموت على الاستسلام للمبضع وانتظار كبد من فارق الحياة بحادث سير وكبد سليم.
ربما وسوس له بعض 'الحلفاء' في بيروت بأن لمعد البرنامج موقفاً غير منسجم مع بطش الدكتاتوريات حيثما وحينما كانت، وأن زياد قد يضطر للإجابة على سؤال يتعلق بالموقف من النظام السوري.
ربما!
لكن زياد خاض معارك سياسية على مختلف الجبهات؛ حتى أنه في السنوات الأخيرة اهتمّ كثيرا بإجراء مقابلات مع مختلف القنوات المحلية والعربية؛ سعى من خلالها إلى إيصال رسائل سياسية ولم يتحدث عن الغناء والموسيقى والمسرح إلا عابرا، وكأنه ينعى الفن في لبنان المزدحم بساحات التدريب وتجريب الأسلحة أكثر بكثير من المسارح وقاعات العروض ونوادي الموسيقى والمراقص.
اختلف زياد حتى مع الماركسي الإصلاحي فواز طرابلسي، صاحب أهم دراسة فكرية عن ظاهرة فيروز والرحابنة بكتابه التأسيس (فيروز والرحابنة مسرح الغريب والكنز والأعجوبة) ولعلها أهم دراسة فنية وسياسية عن ظاهرة الرحابنة التي لفت العالم العربي بجناحيها واقترنت صباحات كل العرب رغم تعاستها بصوت فيروز وأنغام الرحابنة.
فقد انتقد فواز طرابلسي علاقة السيدة فيروز 'بعائلة الأسد'؛ ورد على انزعاج زياد من أن ما قاله ليس تهمة بل هو الواقع، مشدداً على أنه ضد مشاركة حزب الله في الحرب السورية، وأنه أيضاً ضد الأنظمة الخليجية وتنظيمات القاعدة في سوريا.
وقال طرابلسي: 'أنا احترم موقف السيدة فيروز، إذا افترضنا أن ما قيل عنها هو موقفها'، متهماً زياد بالزج بمؤسسة الرحابنة بقتالين؛ الأول متصل بالوضع في لبنان، والثاني بالحرب السورية، وهو ما لن يقدم فائدة للسيدة فيروز، ولكنه شدد على أنه يتعاطى صوت فيروز كخبزه اليومي منذ ستين عاماً وهو ما دفعه لتأليف كتاب عن تاريخ ومسيرة فيروز والرحابنة.
لم يتصالح زياد مع الواقع اللبناني وانتقد حتى الحلفاء فاتحا ملفات اغتيال كتاب وقادة شيوعيين في جنوب لبنان، واتهم تلميحا أو صراحة 'حزب الله' بالهيمنة على القرار الوطني وتهميش الدور البطولي لقوى اليسار في مقاومة الغزو والاحتلال، وانتقد تحاشي القيادات التقليدية في الحزب الشيوعي اللبناني كشف المستور عن اغتيال مهدي عامل وحسين مروة وكوكبة من الشيوعيين واليساريين؛ سُجل اغتيالهم ضد مجهول.
اختار زياد القلق العمل السياسي والخطابات بعد صمت صالات العروض المسرحية والغنائية في بلد يخوض مع دولة الفصل العنصري حروبا دورية بإرادة حزب واحد ومهدد في كل وقت لقصف صاروخي مدمر.
عاش زياد الرحباني ومات مرحا شجاعا صادقا منسجما مع نفسه لا يهاب أحد.
ونذكر مقولته الشهيرة؛؛؛
والشيعة لهم إيران
والموارنة لهم فرنسا
والكاثوليك لهم الفاتيكان
والروم لهم روسيا
أما نحن (الملحدين)…
ما إلنا غير الله!!!'
فلعلها تختزل تفرد زياد القلق المشاكس في الفن والسياسة.
سلام مسافر
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب