السياحة الدينية في لبنان: بين التفاؤل الحذر والتطوير

يقف اللبناني اليوم على الحدّ بين الحذر والتفاؤل، بالنظر إلى المخاطر التي تواجهها البلاد، بسبب ارتدادات صراعات المنطقة، التي لا تكاد تلوح فيها بارقة أمل مع ما يجري بثّه من موجات تفاؤل لدى المواطنين، حتى تخمدها التهديدات العسكريّة والأمنيّة على اختلافها، مع ما يرافقها من خطابات سياسية عالية السقف.

وتشكّل السياحات المتنوّعة في لبنان إحدى صفحاته المشرقة، علاوة على أهميّتها الاقتصادية، ومنها أخيرًا السياحة الدينية التي تطوّرت على نحو كبير، بما يملكه الوطن من أماكن تمتزج بين التاريخ والتراث الديني وتنوّع الثقافات، في بلد أحد شعاراته أنه «أكثر من وطن، هو رسالة حريّة عالميّة للشرق والغرب» كما وصفه سابقًا قداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في أثناء زيارته لبنان عام 1997.

وعليه، جرى تنظيم العديد من الرحلات التي تحمل عنوان الثقافات الدينية إلى عدد من المواقع الدينية من مزارات ومقامات في عدة مناطق من الجبل، وفي حريصا ومار شربل في جبيل، والقديسة رفقا في البترون والحرديني في كفيفان البترون، وجامع محمد الأمين وسط بيروت ومساجد وخلوات وحسينيات لكلّ منها حكايتها الإيمانية والروحية...الخ، التي تعني الكثير للمسلمين والمسيحيين على حدّ سواء، وتستقبل زوّارًا ضمن جولات سياحية هادفة، لتعزيز ثقافة الالتزام بالقيم الدينية وضمنها الإنسانية، باعتبار الإنسان هو الغاية الأسمى.

روزنامة الصيف حافلة بالمواعيد، خاصة في مناطق الجبل، التي بدأت التحضيرات لأنشطة بهذا الخصوص وتنتظر اللمسات الأخيرة للإعلان عنها، عبر مجموعة تعمل في هذا السياق، كرسالة وطنية أوّلًا، وثقافية ودينية لا يزال يتمسّك بها اللبنانيّون. لتأكيد مميّزات لبنان وحضارته، ومنها التنوّع لعائلاته الرّوحية، خاصة أنّ الجبل شهد أكبر مصالحة تاريخية ووطنية عام 2001، لطيّ صفحة الحروب الأليمة التي عبثت به، وفتح علاقة من المحبة والأخوّة الإنسانية بين أبنائه.

على المقلب الآخر من جبل لبنان، يتراءى جبل الشيخ، الذي ينتظر بدوره إحياء مناسبة «عيد التجلّي» في 2 آب المقبل، وذلك بالتوازي مع الحركة السياحية الناشطة على مستوى كل لبنان بمختلف مناسباتها لاستقطاب السيّاح. والتحضيرات جارية على قدم وساق لإحياء «يوم التجلي»، ليكون مناسبة سنوية ثابتة ووطنية وروحية عامة، لتطوير السياحة في بلدة راشيا ومنطقتها، وكي تتحوّل بذلك إلى وجهة للسياحة الدينية أيضًا وإلى مقصد للزوّار على مستوى لبنان والعالم.

لجبل الشيخ «حرمون» حكايته الخاصة، وهو يتربّع على قمة عالية ترتفع نحو 3 آلاف متر عن سطح البحر ويطلّ على ثلاث دول هي: لبنان وسوريا وفلسطين، ويقع في قلب منطقة المشرق العربي، وشكّل في ما مضى وحتى اليوم محطّ أنظار الشعوب وأُطلقت عليه عبر التاريخ تسميات عدّة. ويتضمّن معبدًا قديمًا يُعزى إلى الكنعانيين ويدعى اليوم «قصر شبيب»، وغدا موقعًا للتعبّد والتبرّك وتلقّي النذورات، كما يحوي نقوشًا ومنحوتة على حجارته، عمد الاحتلال الإسرائيلي إلى تدمير أجزاء منه كانت ثابتة في مكانها عام 1967، فأزال بذلك أحد أكثر المعالم الأثرية أهميّة في هذه المنطقة.

وإحياءً لهذه الرمزية، أُدرج المكان على لائحة التراث الوطني لمديرية الآثار وأعلنت بلدية راشيا يومي 3 و4 من شهر آب موعدًا ثابتًا من كل عام للقيام برحلة إلى قمة جبل الشيخ وكتقليد يجري سنويًا.

أبو فاعور

وفي هذا السياق، رأى عضو كتلة «اللقاء الديمقراطي» النائب وائل أبو فاعور لـ «نداء الوطن»، أن «يوم التجلّي هو مناسبة روحية مهمة لكل أبناء الوطن ولكلّ المؤمنين من كل الطوائف، طبعًا، للمناسبة خصوصية مسيحية في جبل حرمون، الذي شهد تجلّي السيد المسيح، إنما وكما في الأعوام السابقة سيتمّ إحياء المناسبة بشكل مختلف هذا العام، لتكون مناسبة روحية جامعة لكل أبناء الوطن».

أضاف: «هناك تنسيق يجري مع الكنيسة، وثمة فريق عمل من قبل بلدية راشيا، وفريق مواكب يساعد في التحضيرات، وستكون المناسبة هذا العام روحية مميزة، بأن يحجّ المؤمنون إلى جبل حرمون لإحياء الذكرى. ولإنجاح النشاط قمنا على غرار المرة السابقة بترتيبات مع قيادة الجيش اللبناني، الذي ساعد عبر عناصر الجيش ومديرية المخابرات آنذاك، وستتمّ الإجراءات الأمنية نفسها مع الجيش و «اليونيفل» والأطراف المعنية، لضمان سلامة المشاركين. وبكلّ الأحوال لن يقترب المؤمنون والمشاركون من المناطق المحظورة وإنما في الهضاب السفلية من جبل الشيخ».

وختم أبو فاعور: «إنها رسالة وطنية في الوحدة الوطنية وإحياء هذا المخزون الثقافي التاريخي الروحي في جبل حرمون».

الأب سعد: المناسبة تؤكّد هوية راشيابدوره نوّه كاهن رعية مار جرجس في راشيا الأب ابراهيم سعد، بـ «أهمية المناسبة الروحية والوطنية المنتظرة، والعمل المشترك الذي يحصل الآن لإنجاحها، والذي يؤكّد هوية راشيا الحقيقية بهذه المناسبة، حيث بدأ الناس يكتشفون أكثر وأكثر هذه الهوية. راشيا العيش الواحد الحقيقي الذي له معنى عميق وليس معنى سطحيًّا، ونريد أن نثبته أكثر، لعلّها تكون عدوى لكل لبنان».

معلولي: العيد ليس للمسيحيين بل لجميع اللبنانيينوأشارت منسّقة النشاط السيدة ليليان معلولي، إلى أن هذا العام، «نحتفل بعيد تجلّي الرب يسوع المسيح في راشيا وجبل حرمون، على مدى يومين من الروحانية والانفتاح الثقافي واللقاء المشترك، وهذا الحدث ليس جديدًا على راشيا، إذ اعتاد أهالي البلدة الاحتفال بالتجلّي سنويًّا، جنبًا إلى جنب، مؤمنين بقيمة هذا الموعد الروحي والثقافي، ومتّحدين من مختلف الخلفيات والمبادرات، لنُعيد لهذا العيد روحه الجامعة».

أضافت: «تبدأ الفعاليّات مساء السبت عند المغيب بقدّاس تُفتح فيه أبواب جميع كنائس راشيا، بعد زيارة الكنائس والسوق وقلعة راشيا، حيث يلتقي الجميع في حديقة راشيا، لتناول عشاء قرويّ تقليديّ من إعداد أهل البلدة، ثم تعرض «جمعية على خطى المسيح» في جنوب لبنان، فيلمًا للمخرج فيليب عرقتنجي بعنوان: «على خطى المسيح في جنوب لبنان»، يروي أثر السيد المسيح على هذه الأرض. وفي صباح الأحد، يُقام قدّاس على جبل حرمون، يتبعه عرض موسيقي مؤثّر من أداء مكفوفي مدرسة ميشال مالك، وتُفتح الكنائس طيلة النهار لاستقبال الزوّار في معارض للفنانين والحرفيين».

وختمت معلولي: «هذا العيد ليس فقط للمسيحيين، بل هو دعوة مفتوحة أيضًا لجميع اللبنانيين، في لقاء نابع من عمق الجبل، يجمع بين الإيمان، التراث والفن».