اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة الديار
نشر بتاريخ: ٢ أيار ٢٠٢٥
من بين أبرز الأحداث الراهنة في منطقة الشرق الأوسط، تتصدر المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران واجهة المشهد السياسي، وسط ظروف إقليمية ودولية بالغة التعقيد ودور اسرائيلي ضاغط، لتشكل محطة فارقة في مسار العلاقة بين الطرفين بعد سنوات طويلة من التوتر والانقطاع. وتعتبر هذه المفاوضات واحدة من أخطر وأهم جولات التفاوض في التاريخ المعاصر، نظرًا لامتلاك الطرفين ترسانات هائلة من القدرات السياسية والعسكرية، وأوراق نفوذ فاعلة في منطقة تُعد حيوية للأمن القومي الأميركي والأوروبي على حد سواء.
فلماذا تراجعت طهران عن رفضها المبدئي للتفاوض المباشر، خاصة في ظل إدارة ترامب المتقلّبة؟ وما الذي يحمله ترامب في جعبته للإيرانيين؟ وهل يمكن لهذه المفاوضات أن تُطلق شرارة تحولات غير مسبوقة، قد تصل إلى حد إعادة رسم خريطة التحالفات في الشرق الأوسط؟ وهل التطبيع بين إيران وإسرائيل ممكن؟
من المنظور الإيراني، لطالما انتهجت إيران سياسة 'حافة الهاوية'، مدفوعة بقدرة عالية على التقدم نحو أقصى درجات التصعيد ثم التراجع المدروس في اللحظة الحاسمة، كما ظهر في استراتيجية 'المرونة البطولية' التي اعتمدها الرئيس 'حسن روحاني' عام 2013، حيث فُضّل التفاوض مع 'الشيطان الأكبر' على حساب الشعارات الأيديولوجية، خدمةً للمصلحة الوطنية العليا. في المقابل، رفضت طهران بشدة التفاوض مع إدارة ترامب بسبب انسحابه الأحادي من الاتفاق النووي وغياب الثقة في التزامه. فما الذي دفع المرشد الأعلى 'علي خامنئي' اليوم، إلى تغيير هذا النهج الصارم والقبول بالتفاوض المباشر مع واشنطن في هذا التوقيت الحرج؟
دوافع إيران نحو طاولة الحوار:
ثمة أربعة أسباب محورية دفعت طهران إلى هذا التحول الاستراتيجي:
أولًا، الخوف الوجودي من تنفيذ التهديدات الأمريكية بضرب برنامجها النووي. فوفقًا لتقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز للصحفية الأميركية من أصول إيرانية، 'فرناس فاسيحي'، في العاشر من أبريل (أي قبل يومين من انعقاد المفاوضات)، لقد تمّ تبليغ خامنئي بأن عدم الانخراط الفوري في مفاوضات مع اميركا سيُقابَل بقصف وشيك لمنشآت 'فوردو و نطنز النووية'. وقد تزامن هذا الإنذار مع تحركات عسكرية أميركية '- طائرات وقاذفات وأصول بحرية- مُعلَنة في المنطقة، ما أضفى مصداقية مُرعبة على التهديد، ودفع القيادة الإيرانية إلى تبني منطق 'السياسة هي فن الممكن، لا فن المستحيل'. ففي نهاية المطاف، تدرك ايران تماما أنها قوة إقليمية ، ومهما بلغت قوتها، لا يمكنها أن تناطح قوة عظمى كالولايات المتحدة بشكل مباشر.
ثانيًا، الخشية المتزايدة من التطور التكنولوجي الأميركي الخارق. فلطالما استندت إيران إلى تحصينات منشآتها النووية العميقة تحت الجبال- وهي التي تقع داخل منحدرات جبلية تصل إلى 80 مترًا- كضمانة ضد أي ضربة عسكرية. إلا أن التطورات الهائلة في مجال الأسلحة الأميركية، وظهور قنابل ذكية خارقة للتحصينات، بالإضافة إلى النجاحات الإسرائيلية المزعومة في استهداف أهداف عالية القيمة في أعماق الأرض، بددت هذا الوهم الإيراني. لقد أدركت طهران أن ما كان يُعتبر مستحيلاً بالأمس، أي اختراق هذه التحصينات، أصبح ممكنًا اليوم، مما وضع استثماراتها الهائلة في البرنامج النووي تحت تهديد حقيقي. وبالتالي، كيف للمرشد الإيراني، الذي استثمر مئات المليارات من الدولارات في تطوير البرنامج النووي في المنشآت، المخاطرة بتعريضها للخطر، مقابل الجلوس والتفاوض مع أميركا؟
ثالثًا، التوق الشديد لتخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة. فالعقوبات الأميركية المُطبقة منذ عام 2017 عصفت بالاقتصاد الإيراني، مُتسببة في انهيار قيمة العملة الوطنية (التومان)، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة، مما أثار استياء شعبيًا واسعًا، وهدّد الاستقرار الداخلي. وقد أظهرت الأسواق الإيرانية بالفعل استجابة إيجابية ولو طفيفة للإعلان عن المفاوضات، مما يُؤكد على الأهمية القصوى لرفع العقوبات بالنسبة للنظام الإيراني. فإدراك طهران لاعتماد النظام المالي العالمي على النفوذ الأميركي جعل التفاوض الخيار الأكثر جدوى لتخفيف هذه الضغوط الرهيبة.
رابعًا، الشك المتزايد في جدوى الاعتماد الكامل على الحلفاء. ففي مواجهة الضغط الأميركي الهائل، أدركت إيران أن حلفاءها الإقليميين والدوليين، مثل روسيا والصين، قد لا يكونون على استعداد للمخاطرة بمواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة دفاعًا عن مصالح إيران. هذا الواقع دفع طهران إلى البحث عن مسارات أخرى لحماية مصالحها الوطنية، بما في ذلك الحوار المباشر مع واشنطن.
وعلى الجانب الآخر من الطاولة، تتعدد دوافع الولايات المتحدة للانخراط في هذه المفاوضات :
أولًا، الاعتراف المتزايد بعدم جدوى الحلول العسكرية الحاسمة. فصناع القرار الأميركيون يدركون أن أي عمل عسكري شامل ضد إيران قد يُشعل حرائق إقليمية يصعب التنبؤ بعواقبها، وأن تدمير البرنامج النووي الإيراني 'بشكل كامل' يظل هدفًا بعيد المنال.
ثانيًا، الخوف من رد فعل إيراني مُزلزل. فالولايات المتحدة تُدرك تمامًا قدرة إيران على شن هجمات انتقامية واسعة النطاق تستهدف القواعد الأميركية وحلفائها في المنطقة- في تركيا والخليج والمحيط الهندي وحتى الهادئ- ، مما قد يُغرق الولايات المتحدة في مستنقع صراعات لا نهاية لها، وهو ما لا يتماشى مع رغبة ترامب في تجنب حروب جديدة.
ثالثًا، الإغراء الهائل بالمكاسب الاقتصادية المُحتملة. فالولايات المتحدة، وخاصة الرئيس ترامب ذو الخلفية التجارية، يُدرك الإمكانات الاقتصادية الكامنة في إيران كدولة غنية بالموارد الطبيعية الهائلة التي لم تُستغل بعد بشكل كامل.
وقد كان من أبرز ما أثار استياء ترامب في الاتفاق النووي لعام 2015 هو خروج الولايات المتحدة منه من دون تحقيق أي مكاسب اقتصادية ملموسة، بينما استفادت شركات أوروبية كبرى مثل توتال وإيني من فرص الاستثمار في قطاع الطاقة الإيراني، كما فضلت إيران التعاقد مع شركة إيرباص الأوروبية على بوينغ الأمريكية في تحديث أسطولها الجوي.
رابعًا، الرغبة في دمج إيران في مشروع الممرات الاقتصادية البديلة للنفوذ الصيني. فالولايات المتحدة تسعى لتعزيز مشروع 'الممر الاقتصادي الهندي' كمنافس لمبادرة 'الحزام والطريق' الصينية، وتُدرك أن تعاون إيران، صاحبة الموقع الاستراتيجي المحوري، سيكون ضروريًا لنجاح هذا المشروع الطموح.
وفي خضم هذه الحسابات المعقدة، نشأ خلاف حول آلية التفاوض. فقد أصر الجانب الأميركي على ضرورة إجراء مفاوضات مباشرة، بينما فضلت إيران في البداية الحوار غير المباشر عبر وسيط عماني. وفي نهاية المطاف، تم التوصل إلى تسوية تكتيكية بعقد جولة أولية 'غير مباشرة'، تلتها محادثات 'مباشرة' وجيزة .
وعلى صعيد جوهر المفاوضات، تلوح في الأفق صفقة مُحتملة تقوم على مبدأ 'رابح-رابح':فوفقا للتقديرات الإيرانية ، فقد عرضت ايران فر صا استثمارية تتراوح بين تريليون وأربعة تريليونات دولار، وتشمل قطاعات النفط والغاز والمعادن وإعادة بناء البنية التحتية الإيرانية ، وهو ما يُمثل 'صفقة العمر' المُغرية لواشنطن. إنّ عرض إيران السخي بفتح أبواب اقتصادها المُغلق أمام الاستثمارات الأميركية الهائلة مقابل تجميد برنامجها النووي يمثل تحولًا كبيرًا في تفكير ايران الاستراتيجي، ويُمهد الطريق لتسامح مع الوجود الفكري الأميركي في المجتمع الإيراني، وهو ما يُعتبر اختراقًا كبيرًا في طبيعة العلاقات بين البلدين.
الخاتمة والاستنتاجات
1. تُمهّد المفاوضات الحالية لاحتمال التوصل إلى اتفاق شامل يتضمن 'تجميد' البرنامج النووي الإيراني مقابل حصول اميركا على الكعكة الاقتصادية الايرانية ورفع العقوبات، مما قد يؤدي إلى تطبيع اقتصادي بين البلدين.
2-لا يزال من غير الواضح ما إذا كان المقصود من 'تجميد' البرنامج النووي تفكيكه بالكامل، أم إعادته البرنامج إلى مستويات لا تشكل تهديدًا من وجهة نظر الولايات المتحدة.
3- إنّ التقارب المحتمل بين إيران والولايات المتحدة من شأنه أن يُحدث تغييرات جذرية في تحالفات إيران الإقليمية، ويؤثر بشكل مباشر على علاقتها بمحور المقاومة، إلى جانب انعكاساته على مواقف قوى دولية كالسعودية، الصين، وروسيا.
4- إنّ تزامن الانفجارين الأخيرين في إيران مع انطلاق المفاوضات لا يمكن اعتباره مجرد صدفة عابرة، إذ لا يمكن التغاضي عن أنهما يشيران إلى وجود رسائل ضاغطة، قد تهدف إما إلى عرقلة مسار التفاوض، أو الدفع نحو إتمامه.
وتبقى نتائج المفاوضات المقبلة، وما ستكشف عنه الأيام القادمة، العامل الأساسي والحاسم في رسم ملامح المستقبل…
أستاذة جامعيّة- باحثة سياسيّة