اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٢٦ تشرين الثاني ٢٠٢٥
ميرنا محمّد(*)
تُشكّل تقنيّاتُ الذكاء الاصطناعيّ قوّةً دافعةً محوريّة في العديد من القطاعات العالَميّة، ولاسيّما في صناعة المعرفة وإدارة الملكيّة الفكريّة. وفي العالَم العربيّ، تبدو الصورةُ متعدّدة الأبعاد؛ إذ نَجِد أنّ دولاً مثل المَملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة وقطر قد تسارعت في تبنّي الذكاء الاصطناعيّ من ضمن بنيتها المؤسّسيّة والاقتصاديّة، مُعتبرةً إيّاه رافعةً أساسيّة للتنويع الاقتصاديّ والتنمية المُستدامة بعيداً من الاعتماد المفرط على النفط.
في الرياض وأبو ظبي، يَظهر الذكاءُ الاصطناعي كأداةٍ استراتيجيّة للتحوُّل نحو اقتصادٍ قائم على المعرفة. أمّا بقيّة الدول العربيّة، فالوضع يبدو فيها أكثر تفاوتاً، نظراً إلى السياقات السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة التي تَمرّ بها بعض هذه الدول. هذه الفوارق تُبرِز أنّ الذكاءَ الاصطناعي يَظهر في المنطقة كسيفٍ ذي حدَّيْن؛ فهو بالنسبة إلى الدول الخليجيّة وسيلة محوريّة للاستدامة على المدى الطويل، في حين يُشكِّل للدول العربيّة الأخرى تحدّياً مضاعفاً قد يُعمِّق الفجوة الرقميّة والاقتصاديّة إذا لم تُعالَج الثغرات البنيويّة والسياسيّة والأمنيّة القائمة.
ولا يقتصر أَثَرُ الذكاء الاصطناعي بطبيعة الحال على الجانب الاقتصادي فحسب، بل يتعدّاه ليتضمَّنَ ابتكارَ المعرفة ونشْرَها عَبْرَ أتْمَتَة المهامّ، وتحسين تحليل البيانات، وتعزيز الابتكار في قطاعاتٍ حيويّة مثل الصحّة والتعليم والإدارة العامّة. على سبيل المثال، تمَّ استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين تقديم الرعاية الصحيّة بل ودمْجه في القطاع التعليمي؛ بحيث يُسهم في تطوير اقتصاد المعرفة.
وفي مصر، يتمّ إدماج الذكاء الاصطناعي بشكلٍ مُتزايد في صناعة البرمجيّات، حيث يُعَدّ رأسُ المال الفكري (IC) أحد الأصول الحيويّة، وبَدأتِ الشركاتُ البرمجيّة المصريّة في الاستفادةِ من آليّات الذكاء الاصطناعي لتعزيز رأس مالها الفكري، وبالتالي تحسين قدرتها التنافسيّة في السوق العالَميّة. ومع ذلك، يُثير صعودُ الذكاء الاصطناعي تحدّياتٍ وفُرصاً كبيرة لحقوق الملكيّة الفكريّة في الشرق الأوسط، بل وفي العالَم كلّه. فلَم يتمّ تصميم قوانين الملكيّة الفكريّة التقليديّة لاستيعاب الإبداعات التي تمَّ إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي، ما يؤدّي إلى عدم اليقين بشأن الملكيّة والحماية. على سبيل المثال، تُعَدّ المملكة العربيّة السعوديّة رائدة في الجهود المبذولة لمُواجَهة هذه التحدّيات من خلال صَوْغِ قوانين جديدة للملكيّة الفكريّة تتضمَّن صراحةً الإبداعات التي تمَّ إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي. وتَهدف هذه المُبادرة إلى توضيح ملكيّة الاختراعات التي تمّ إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي وضمان حماية المُبتكِرين بشكلٍ كافٍ بموجب القانون. علاوةً على ذلك، تُشارِك المنظّمةُ العالميّة للملكيّة الفكريّة (WIPO) بنشاطٍ مع الدول الأعضاء لمُناقشة آثار الذكاء الاصطناعي على أنظمة الملكيّة الفكريّة، وتُشدِّد المنظّمةُ على حاجة صانعي السياسات إلى النَّظر في كيفيّة دمْج الذكاء الاصطناعي في أُطرِ الملكيّة الفكريّة الحاليّة بغية تعزيز الابتكار مع حماية حقوق المُبدعين.
إلى ذلك، يَطرح الذكاءُ الاصطناعي إشكاليّاتٍ قانونيّة وأخلاقيّة معقّدة تتعلّق بملكيّة المُخرجات الإبداعيّة التي تُنتجها النماذج اللّغويّة على اختلافِها، سواء الأجنبيّة منها (الأميركيّة والصينيّة والأوروبيّة) أم العربيّة التي بَدأت في الظهور مؤخّراً، مثل أنموذج «هيوماين تشات» السعودي في 25 آب/ أغسطس 2025، إلى جانب مبادراتٍ قَطَريّة وإماراتيّة سابقة. ويُبرِز هذا التنامي حاجةً ملحّة إلى تطوير أطرٍ واضحة لحقوق الملكيّة الفكريّة (IPRs)، بخاصّة مع تسارُع هذه النماذج في الأسواق، إقليميّاً وعالَميّاً.
وفي إطار الجهود التنظيميّة المُتسارعة، ركَّزت المملكة العربيّة السعوديّة على إدراجِ بنودٍ متعلّقة بالذكاء الاصطناعي من ضمن قانون الملكيّة الفكريّة؛ فقد أُقرَّت مادّةٌ جديدة في إطار رؤية السعوديّة 2030 تحت عنوان «الملكيّة الفكريّة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والتقنيّات النّاشئة»، تُميِّز بين الإبداعات التي تطوَّرت بإسهامٍ بشريّ واضح –تُمنح له حقوق ملكيّة مُنقّحة - والأعمال النّاتجة بشكلٍ مستقلّ تماماً بواسطة الذكاء الاصطناعي، والتي تُعَدّ جزءاً من المجال العامّ (Public Domain).
كما عملتِ الهيئةُ السعوديّة للملكيّة الفكريّة (SAIP) على تعديل التشريعات لضمان بقاء «المُبدِع الإنساني» هو صاحب الحقوق في محتوى الذكاء الاصطناعي الذي يُنفَّذ بإسهاماتٍ بشريّة واضحة، بينما يُستبعَد الذكاء الاصطناعي ككيانٍ مؤلّف مستقلّ. وعلى مستوى التعاوُن الإقليمي، جرى في أيّار/ مايو 2024 اجتماعٌ افتراضي ضمَّ خبراء المنظّمة العالميّة للملكيّة الفكريّة (WIPO) ومُمثِّلي مكاتب الملكيّة الفكريّة في عددٍ من الدول العربيّة، من بينها السعوديّة، لمُناقشة أثر الذكاء الاصطناعي على الأُطر التشريعيّة وكيفيّة تطويرها لمواكبة هذا الواقع المُتسارِع. ويُعَدّ ذلك مثالاً واضحاً على صعود ما يُمكن تسميته بـ «الذكاء الاصطناعي السيادي»، الذي يُجسِّد حقَّ الابتكار في إطارٍ ثقافي وقانوني يَعكس الخصوصيّة الوطنيّة للدول العربيّة.
وعلى الرّغم من إحراز بعض الدول العربيّة تقدُّماً في تحديث تشريعاتها الخاصّة بالملكيّة الفكريّة، لا تزال تحدّيات ضعف الإنفاذ والتطبيق المحدود قائمة، ولاسيّما في المغرب وتونس، حيث يظلّ نظام الابتكار في مراحله الأولى. كما تُضاف إلى ذلك معضلة جوهريّة تتمثّل في أنّ النُّظم القانونيّة التقليديّة صُمِّمت أساساً لحماية الإبداع البشري، بينما يَفرض الذكاءُ الاصطناعي أشكالاً جديدة من الابتكار تتجاوز قدرة هذه النُّظم على الاستيعاب. وقد أكَّد تقريرٌ صادر عن مكتب الاتّحاد الأوروبي للملكيّة الفكريّة (EUIPO) في آذار/ مارس 2022 خطورةَ هذه الإشكاليّة، مُبرِزاً أنّ أدوات التعلُّم الآلي قادرةٌ على إزالة العلامات المائيّة الرقميّة المُخصَّصة لتتبُّع النسخ غير المُصرَّح بها من الأعمال المَحميّة بحقوق النشر، وهو ما يُفاقِم الحاجة إلى وضْعِ ضوابط قانونيّة دقيقة تُنظِّم استخدامَ البيانات وتُحدِّد بوضوح مسؤوليّةَ المُطوِّرين في حالات الانتهاك. ومع ذلك، تُمثِّل هذه التحدّيات فرصةً للدول العربيّة لتعزيز الابتكار وجذْب الاستثمارات من خلال تطوير تشريعاتٍ تُواكِب التطوُّرات التكنولوجيّة، وتُشجّع على الاستثمار في مجال الذكاء الاصطناعي. كما تُتيح هذه التحدّيات فرصةً لتعزيز التعاون الإقليمي بين الدول العربيّة لخلْق بيئة قانونيّة مُتناسقة تُحفِّز على الإبداع والنموّ الاقتصادي.
منظّمة عالميّة للذكاء الاصطناعيّ
لتحقيق هذا الهدف، يتعيّن على الدول العربيّة اتّخاذ مجموعة من الإجراءات الأساسيّة التي تشمل:
إرساء إطارٍ تشريعيّ منظِّم لاستخدام الذكاء الاصطناعي وحماية حقوق الملكيّة الفكريّة:
تطوير مبادئ توجيهيّة صارمة لاستخدام الذكاء الاصطناعيّ في الصناعات الإبداعيّة:
أ- ينبغي مُراجعة وتحديث التشريعات القائمة لتواكِب التطوُّرات التكنولوجيّة السريعة في مجال الذكاء الاصطناعي.
ب- يتطلَّب ذلك وضْعَ أحكامٍ محدَّدة تَتناول ملكيّة المُخرجات الإبداعيّة النّاتجة عن الذكاء الاصطناعي وتنظيم استخدام البيانات في تدريب هذه الأنظمة.
أ- من شأن هذه المبادئ أن تَضمن الاستخدامَ المسؤول والأخلاقي للتكنولوجيا في مجالات مثل الموسيقى والسينما والنشر.
ب- تهدف إلى حماية حقوق المُبدعين البشريّين وضمان عدم التعدّي على إبداعاتهم.
علاوةً على ذلك، يُمكن لتعزيز التعاون بين الدول العربيّة أن يفتحَ المجال أمام الاستفادة من التجارب الدوليّة في حوْكمة الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً في ضوء الدعوة الصينيّة بتاريخ 26 تمّوز/ يوليو 2025 لإنشاء منظّمة عالميّة للذكاء الاصطناعي مقرّها شنغهاي، وفي سياق التنافُس التعاوني بين الصين والولايات المتّحدة، حيث تُركِّز خطّةُ الولايات المتّحدة الصادرة في 23 تمّوز/ يوليو 2025 على تعزيز ريادتها عَبْرَ البحث والتطوير، وبناء القدرات البشريّة والتقنيّة، بينما تسعى الصين إلى تعزيز الابتكار السيادي، من ضمن إطارٍ قانوني وثقافي محلّي، مع إبقاء قنوات التعاوُن البحثي والتقني مفتوحة. ومن هذا المُنطلق، فإنّ تفاعل الدول العربيّة مع التحدّيات المطروحة، وسعيها إلى معالجتها، إلى جانب استثمار الفُرص التي يُتيحها الذكاء الاصطناعي، كفيلٌ بتمكينها من بناء بيئة إقليميّة تُحفِّز الابتكار والإبداع والنموّ الاقتصادي، وفي الوقت ذاته تُحافظ على حقوق الملكيّة الفكريّة وتَضمن مواءمتها للتحوّلات التكنولوجيّة المُتسارعة في ظلّ النظام الدولي.
(*)باحثة في العلوم السياسيّة من مصر
يُنشر هذا المقال بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونيّة الصادرة عن مؤسّسة الفكر العربيّ











































































