اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ١٢ أب ٢٠٢٥
في خضمّ اشتداد الحصار الإسرائيلي لبيروت صائفة 1982، وأثناء المباحثات في ورقة الموفد الأميركي، فيليب حبيب، توجّه الرئيس تقي الدين الصلح، المعروف بحصافته، إلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، بسؤال مزدوج، خلال اجتماعه برؤساء الحكومات السابقين في دارة الرئيس صائب سلام بالمصيطبة التي خرج منها أوّل مخطوط للعلم اللبناني:
هل لديك سلاح سرّي لم تستخدمه بعد؟ أو هل لديك دعم سرّي من طرف دولي وعدك بالتدخّل في لحظة مفصلية؟ إذا كان لا هذا ولا ذاك فلِمَ تزيد عذابات أهل بيروت الذين احتضنونك؟. ينقل عدد من السياسيين الذين التقوا أبو عمّار لاحقًا قوله إن كلام تقي الدين الصلح أقنعه بالموافقة على ورقة فيليب حبيب، والخروج من بيروت، أكثر من قوّة الحصار الإسرائيلي.
يدور الزمان دورته ليعيش لبنان بعد 43 عامًا حالًا شبيهة بفروقات جوهرية، حيث تطرح الدولة عبر رئيس الجمهورية والحكومة السؤال نفسه على حزب اللّه، الذي جرى تصعيده لملء فراغ منظمة التحرير، إنما بمدار أكثر اتساعًا يعمّ لبنان وشعبه.
ليردّ باستخدام أدوات التعطيل والفوضى المنظّمة، من التمرّد الشوارعي إلى الميثاقية، لرفض الاندماج في مسار الدولة، على وقع توالي تصريحات القادة الإيرانيين، التي ترسل إشارات جليّة بأنّ الحزب ورقة على طاولة مفاوضاتها مع الشيطان، يتناظر مع مثيله العراقي في السلوكيات المقوّضة قيامة الدولة.
يتعامل رئيس الجمهورية بمرونة تقتضيها طبيعة المرحلة وتحدّياتها بمواجهة موجة الجنون المفتعل المظلّلة بخطاب شديد التطرّف. وبينما كان في وسعه توظيف انفجار مخزن الصواريخ جنوبًا وتداعياته المؤلمة لقلب الطاولة على الحزب ووضعه تحت ضغط عزلة شديدة الوطأة، فإنه لم يفعل، لحرصه على عدم شعور أيّ مكوّن بالإقصاء في مسيرة انبعاث الدولة من رماد الصراعات والمحاور.
منذ انطلاق عهده، أثبت الرئيس جوزاف عون أنه على مسافة واحدة من الجميع، ما جلب له انتقادات داخلية وخارجية حول المبالغة في احتواء نزق الحزب وشريكه الرئيس نبيه بري، وكان يردّ دائمًا بأنه دخل بعبدا لـ بناء بلد وليس لتأسيس حزب أو شعبية، وأنه يبحث عن شركاء جديين في هذا الدرب الشائك، متبنيًا مقاربة تتسم بنضج رجال الدولة، تبتعد عن تسجيل الانتصارات التي يصغر حجمها بالمقارنة مع أهمية مشروع الدولة.
لذلك أمهل الثنائي وأعطى كلًا منهما الفرص اللازمة من أجل الانضواء الطوعي في هذا المسار. وحينما دنت لحظة القرار في جلستي 5 و 7 آب، أعاد الرئيس جوزاف عون تعريف دور رئاسة الجمهورية بعد التشوّهات التي أصابتها، مجسّدًا ما نصّ عليه الطائف في أن تكون حكَمًا ضابطًا للتوازنات، وشريكًا في صياغة القرارات التي تحدّد مصير الوطن.
تمثّل الشراكة المنتجة مع رئاسة الحكومة، والتنسيق الدقيق وتبادل الأدوار، روح الطائف التي كفلت الوصول إلى هذه القرارات التاريخية. فيما الادعاءات التي ساقها وزراء الثنائي لتأجيلها وشراء الوقت لا تصمد أمام واقع أن ورقة الموفد الأميركي توم برّاك أشبعت بحثًا من قبل الرئيس برّي على مدى أسابيع، بالتنسيق مع الحزب. الذريعة نفسها ساقها الثنائي إبّان مناقشة مسوّدة المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكانت النتيجة معروفة مع فضح المحكمة اغتيال الحزب الشخصية التي يذرف الدمع اليوم عليها بهتانًا.
إذ ذاك تصبح الميثاقية أداة تعطيل سياسي أكثر تماهيًا مع الفيتو في مجلس الأمن الدولي الذي لطالما وصفه بالأداة الاستعمارية، ليصير السؤال: هل يتعامل الحزب مع اللبنانيين تعامل المستعمرين؟ وأين كانت الميثاقية هذه حين قرّر منفردًا حرب الإسناد والمشاركة في سفك الدم السوري وتهديد أمن الخليج، وقال رئيس كتلته محمد رعد عن إعلان بعبدا بلّوه واشربوا ميته؟
عمليًا، تعيد الشراكة بين طرفي السلطة الإجرائية فكرة الميثاقية إلى جذورها الأصلية على حساب المثالثة المقنّعة. فهي بين المسلمين والمسيحيين حصرًا، وترتبط بـ الميثاق المؤسّس للاستقلال الذي صاغه الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح، ورامَ طمأنة المسيحيين إزاء الطروحات الوحدوية، بما يمهّد لإرساء قواعد سياسية جديدة في لحظة تأسيسية، تطوي استخدام أدوات التعطيل التي ألبسها الحزب أردية ديمقراطية ودينية لتقويض الانتظام السياسي والدستوري وفرض الفراغ.
من خلال الموازنة الدقيقة بين دور الحَكَم والشراكة الجدية في القرار الاستراتيجي، يضع رئيس الجمهورية على الطاولة ثنائية الدولة في مواجهة ثنائية التعطيل والخراب، لتكون الضمانة لجميع المكوّنات، والتجسيد الفعلي لـ ميثاقية مستدامة تتجاوز الأشخاص والزعامات والتنظيمات والمصالح.