اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٢١ حزيران ٢٠٢٥
كتب ناصر قنديل في 'البناء'
من الواضح أن الدعوة لاجتماع جنيف بين وزير خارجية إيران ووزراء خارجية الثلاثية الأوروبية الفرنسية البريطانية الألمانية مضافة إليها مفوّضة الشؤون الخارجيّة في الاتحاد الأوروبيّ، لم تكن مبنية على نوايا أوروبية للتمايز عن أميركا وبناء جسر غربي مع إيران منفصل عن خط المواجهة الأميركيّة الإسرائيلية معها، بل استجابة لحاجة أميركيّة توهّم الأوروبيون أنها تنازل أميركيّ أمامهم، لأن واشنطن تحتاج هذه المنصة طالما أن الثلاثي الأوروبي يلتزم بالتنسيق مع أميركا في مضمون العروض التفاوضيّة، ولا يُعطي وعوداً والتزامات لإيران لا تقبل بها أميركا.
– الواضح أيضاً أن واشنطن لا تريد هذه المنصّة للتراجع عن سقفها التفاوضيّ العالي الذي اختصره الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاستسلام غير المشروط، لكن واشنطن التي تدرك أن إيران لا تزال عند مواقفها الثابتة برفض الاستسلام، والتمسّك بشروطها التفاوضيّة، سواء لجهة حصر التفاوض بالملف النوويّ أو لجهة خطوط حمراء في الملف النوويّ تتصل بالتمسّك بحقوق امتلاك مفاعلات نوويّة والقيام بتخصيب اليورانيوم، والانفتاح على التفاوض حول ضوابط وضمانات تبدّد القلق من وجود برنامج نووي عسكري لدى إيران، وهذا يعني أن لا مجال للبحث بالبرنامج الصاروخي ولا بعلاقات إيران بقوى المقاومة، وقد شهدت جلسة جنيف تأكيداً إيرانياً لهذه الثوابت بعدما سمع وزير خارجية إيران ما يشير إلى تبنٍّ أوروبيّ للمطالب الأميركيّة.
– تنطلق واشنطن من أن الحرب التي شنتها “إسرائيل” على إيران ألحقت أذًى كبيراً ببرنامجها النووي ومنشآتها العسكرية ومؤسساتها القيادية، وأنه إذا كانت إيران لا تزال تتمسّك بثوابتها فلأنها تكابر وربما يستدعي ذلك مواصلة الحرب إلى اللحظة التي تدرك فيها إيران أن الأمور سوف تذهب إلى الأسوأ، وأن التواضع في المقاربة التفاوضيّة صار ضرورياً لإنقاذ ما تبقى، وهذا تعبير استخدمه ترامب مباشرة في مخاطبته للإيرانيين، عندما أشار قبل أيام إلى أن الآتي أعظم، ويعتقد الرئيس ترامب وفريقه المؤيد للحرب على إيران أن “إسرائيل” قادرة على فعل المزيد وأن إيران سوف تصرخ من الألم القادم، ولذلك فهي تحتاج إلى جس نبض إيران وإخضاع الموقف الإيراني لمعاينة سريرية دورية، تتيح معرفة التحوّلات التي تطرأ على الموقف الإيراني على إيقاع ما تحققه الحرب الإسرائيلية. وإذا لم يحدث ذلك يصير للمنصة دور آخر هو تحديد التوقيت اللازم للتدخل الأميركيّ المباشر في الحرب وحدود هذا التدخل وتدرّجه، بما يضمن تلافي أسوأ ردود الفعل الإيرانية المؤذية، سواء في استهداف القواعد والأساطيل الأميركية والتوجّه نحو إغلاق مضيق هرمز والتسبّب بأزمة طاقة عالمية.
– بالمقابل تملك إيران مقاربة معاكسة، تنطلق من الثقة بعجز “إسرائيل” عن الصمود طويلاً تحت ضغط ما تتسبّب به الضربات الإيرانية الصاروخية، وأن مخزون “إسرائيل” من صواريخ القبة الحديديّة والدفاعات الجويّة يتراجع وهو مهدّد بالنفاد، بينما ما تملكه إيران من الصواريخ يكفي لحرب طويلة، وإيران لا تمانع بأن يراقب الرئيس ترامب سير الأمور ويتحقق من أن “إسرائيل” أضعف من أن تُخضع إيران وأن إيران تنجح بايصال “إسرائيل” إلى النقطة الحرجة في الحرب، وأن التدخل الأميركي لن يفعل سوى التسبب بأضرار متبادلة لأميركا وإيران، لكن دون حسم الأمور، واكتشاف الحاجة للعودة إلى التفاوض من موقع الاحترام والندية، وإذا كانت أميركا لن تكتشف ذلك دون اختباره، فإن عليها الاستعداد لتحمل عواقب لا ترغب إيران باختبارها، ومفاوضات جنيف بالنسبة لإيران تؤدّي وظيفة إيصال الرسائل اللازمة والتي تريد أن يسمعها الأميركيون عن قرب، وهم يجلسون في غرفة مجاورة للغرفة التي يجري فيها التفاوض.
– تعتقد إيران أن وحدتها الداخليّة تتعزّز بسبب حكمة قيادتها التي لم تترك مجالاً لتخفيض التصعيد ولم تفعله إلا ما يمسّ السيادة والكرامة ويمثل تنازلاً عن الحقوق، وهي لم تفتح حرباً على أحد، رغم أن حرب الإبادة في غزة تسبب أزمة ضمير لكل القادة في إيران، لكن هؤلاء القادة يدركون أن دخول أي حرب يجب أن يبنى على الثقة بتماسك الشعب وراءها، وهذا لا يتحقق في إيران إلا عندما تكون في حال الدفاع، ولا تطلب لوقف الحرب إلا حقوقها القانونيّة. وهذه هي العبرة التي تعلمتها من الحرب التي شنّها النظام العراقي السابق عليها، يوم صدر قرار مجلس الأمن 598 الذي يحفظ حقوق إيران لكنه يقطع على إيران طريق مواصلة الحرب التي تحوّلت من مهمتها الدفاعية الى حرب إسقاط النظام العراقي سواء انتقاماً أو وفاء للمعارضة العراقية التي وقفت مع إيران، وكانت النتيجة تفكّك الوحدة الشعبية حول الحرب ما جعل الإمام الخميني يقول عند قبول القرار 598 إنه يتجرّع السُّم، أما اليوم وبفعل هذه الوحدة الداخلية العالية تستطيع إيران الصمود أكثر من “إسرائيل” التي بدأت تصدّعات جبهتها الدخلية بالظهور مع اكتشاف المستوطنين لحجم كلفة الحرب التي شنتها “إسرائيل” عدواناً بأوهام النصر السريع، بعكس إيران التي دخلتها دفاعاً، والحال نفسه سوف يكون بالنسبة لأميركا إذا قرّرت دخول الحرب عدواناً إيضاً، عندما يبدأ الأميركيّون يرون الكلفة البشرية والاقتصادية للحرب، ولهذا كله تحتاج إيران لمنصة التفاوض لمعرفة اللحظة التي بلغتها والتي يمكن أن تبلغها واشنطن في كل مرحلة، للاستعداد للمواجهة من جهة، وإدراك التوقيت المناسب للتفاوض من جهة مقابلة.
– الأسبوع القادم مفتوح على المزيد من التصعيد بانتظار جنيف 2 وجولة مفاوضات جديدة.