اخبار لبنان
موقع كل يوم -الصدارة نيوز
نشر بتاريخ: ٨ تموز ٢٠٢٥
كتب توفيق رباحي…
عندما قررت إسرائيل الدخول في حرب كاملة مع حزب الله اللبناني في خريف العام الماضي صفّت حسابها معه في سبعة أسابيع. وعندما قررت شنَّ حرب على إيران الشهر الماضي جاء في الأخبار أنها حسمتها في اثني عشر يوما.
فلماذا تعجز إسرائيل عن حسم حربها في غزة وهي تقترب من إكمال عامها الثاني وعلى الرغم من القوة الهائلة التي استعملتها، ومن أن الجهود الدولية التي بُذلت، ولا تزال، لإنهاء الحرب أكبر بكثير من تلك التي بُذلت بخصوص حزب الله وإيران؟
نظريا حزب الله وإيران أقوى بكثير من حركة حماس وكل الفصائل الفلسطينية مجتمعة، وأكثر تنظيما وتسليحا. أما الجيش الإسرائيلي الذي يقاتل حماس في غزة فهو نفسه الذي قاتل حزب الله في لبنان وإيران البعيدة.. أكثر تفوقا وقدرة على إدارة الحرب والاستمرار فيها.
في لبنان استطاعت إسرائيل أن تحدد أهداف الحرب وتنفذها بدقة ووضوح: التخلص من قادة حزب الله ومخزونه الحربي. وكذلك الحال مع إيران، كان هدف إسرائيل الأساسي تصفية المنشآت النووية والعقول التي تديرها. نجحت إسرائيل، ولو مؤقتا، في الوصول إلى أهدافها هنا وهناك. في الحالتين أدار الإسرائيليون الحرب وفق وتيرتهم وتحكموا في توقيت بدايتها ونهايتها ـ بدعم غربي سياسي وعسكري.
أما في غزة فرغم استعمالها كل أنواع الأسلحة والتقنيات الفتاكة، ورغم أن الدعم الغربي بكل أنواعه لا ينقصها، تبدو إسرائيل عاجزة عن حسم الحرب، وتائهة لا تعرف ماذا تريد منها. أليس من اللافت أن مقاتلي حماس والجهاد، ووسط كل الخراب الذي أصبحته غزة، ينجحون إلى اليوم في إيجاد طريقة لقنص الجنود الإسرائيليين ونسف مدرعاتهم؟ إسرائيل الآن في وضع ينطبق عليه قول العسكريين: قد تعرف متى وكيف تبدأ الحرب لكنك لا تستطيع أن تضمن كيف ومتى تنهيها.
الأمر ليس حماس، قوتها أو ضعفها. هذه قضية مكمّلة. السر في عدالة القضية وفي غريزة البقاء. أيّ جماعة أخرى في الوضع نفسه كانت ستقاتل بما استطاعت حتى الموت.
في الحروب المعاصرة تغيّرت مفاهيم النصر والهزيمة. يُنسب لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر قوله في تعليق على حرب فيتنام إن الجيوش النظامية تنهزم عندما لا تنتصر، والمجموعات شبه العسكرية تنتصر عندما لا تنهزم. يستطيع أيّ جيش كسر خصمه دون أن يعني ذلك أنه انتصر في الحرب.
هذا هو حال إسرائيل في غزة.. قصمت ظهر حماس وحوّلت القطاع إلى حقول من الجثث وأنهار من الدماء والدموع، لكنها لم تحقق أيًّا من الأهداف التي وضعها قادتها السياسيون والعسكريون في بداية عدوانهم على غزة. لم يستعيدوا كل الرهائن، ولم يُنهوا حماس، ولم يُحوّلوا غزة إلى منطقة آمنة على إسرائيل. بل إن إسرائيل اليوم في معضلة أكبر: كلما أمعنت في القتل تفاقمت خسائرها وتعاظم عارها العسكري والسياسي والإنساني. كل صاروخ إضافي على غزة يزيدها عزلة وكل قتيل جديد يضاعف تعاطف العالم مع غزة وأهلها. والأخطر أن كل يتيم هو عدو جديد لإسرائيل ومشروع مقاتل بعد عشرين سنة من الآن أو حتى أقل.
مشكلة إسرائيل أن الذين يقاتلون في غزة، على عكس الإيرانيين ومقاتلي حزب الله، مرتبطون بأرض لا بديل لهم عنها. ارتباطهم بالمكان غير خاضع لحسابات سياسية واستراتيجية، ولا يأبه بالقوة العسكرية والتكتيكات الحربية، عكس الآخرين. هدفهم البقاء، وهذا يتطلب منهم الصبر والقتال طالما بقي المحتل.
هذا هو الفرق. بالنسبة لإيران، غزة والقضية الفلسطينية ككل، ورقة من أوراق إقليمية أخرى تساوم بها خصومها في اللعبة الكبرى المفتوحة في الشرق الأوسط.
المنطق نفسه ينسحب على الإسرائيليين. سيتذكّر العالم طويلا صور تدافع الإسرائيليين في صالات الركوب بمطار تل أبيب كلما دوَّت صافرات الإنذار. لقد عوّضت تلك الصور آلاف الكلمات في وصف الارتباط بالأرض من عدمه، مثلما يختزل الحديث المتكرر عن جوازات السفر الثانية التي يملكها أغلب الإسرائيليين جوهر هذا الارتباط.
إقرأ أيضاً: فوضى الإكسبرس على الأوتوستراد: أين دور المحافظ في ضبط المخالفات؟
في الشهور الأولى من الحرب كان سكان غزة والمتعاطفون معهم هم مَن يحلمون بنهايتها، أو بهدنة ولو مؤقتة. اليوم أصبحت الحرب عبثية لا تحقق للجيش الإسرائيلي شيئا من أهدافه في غزة سوى قصف الخيام والملاجئ وقتل المزيد من الأطفال والنساء، وتوسيخ سمعته وسمعة البلاد أكثر فأكثر. لهذا أصبح الإسرائيليون يريدون أيضا نهاية الحرب. وأول من يريدون نهايتها منهم قادة الجيش والجنود لأنهم أيقنوا أنهم لا يستطيعون فعل أكثر مما فعلوا في غزة. أما المتمسكون بالحرب من أمثال الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش فمُهرِّجون لا يفقهون في السياسة والعسكرية، تدفعهم أحقادهم العقائدية وتعطشهم لدماء العرب والفلسطينيين. وحتى هؤلاء لا يبحثون اليوم عن نصر عسكري لأنهم واثقون من استحالته، وإنما يريدون الانتصار على غزة بتهجير سكانها، أي نصر على النساء والأطفال المسحوقين بالجوع والخوف.