اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٢٦ حزيران ٢٠٢٥
في لقائنا الأخير قبل أشهر، بدا غسان المكحل، رحمه الله، مرحاً كعادته ومتفائلاً، خلال شرحه مدى انهماكه وبراعته في أبحاثه الجيو سياسية والثقافية والعلمية، في دلالة واضحة على عزيمته وهزيمته لحالته الصحية التي أقعدته تلك الأعوام الطويلة.
كنت برفقة محب له ورفيق دأب على زيارته والاطمئنان عليه، معتز ميداني، وخرجنا ضاحكَين من دارته الدافئة في كركول الدروز لشدّة الروح المرحة لغسان و«قفشاته» التي كان يلقيها، عاقدَين العزم على العودة..
ربما كان رحمه الله يخفي وراء ابتسامته تلك مرارة المرض الذي داهمه بعد تحذير باكر، فأراد الله أن يختبر إرادته وإيمانه وصلابته، فنجح في الامتحان وانصرف ليعزز «موسوعيته» التي اشتهر بها حيث عمل، في لبنان والخارج، وحجز موقعاً مرموقاً بين الصحافيين اللبنانيين والعرب.
عُرف الصحافي في «السفير» و«العربية» بخصال كثيرة جمعها في شخصه ولم تفارقه حتى أيامه الأخيرة. النبل والكرم والنخوة والشهامة، صفات يحدّثك عنها كل من صادقه أو عمل معه.
كان محبّاً للحياة حتى الثمالة ولعلّه دفع ثمن سكرته تلك وإقباله الجامح على مباهجها من صحته فقد كان الأكول الذي لا يسأل ويقارب القدر بحسن نيّة! ومع أنه «الحاج» فقد كان يُقدّر الجمال أينما وجد، غير مدرك لظلم لاحق وهو في مقتبل العطاء، ولذلك حزن الجميع لما لاقاه.
في المهنة، يروي تلاميذه ومجايلوه الكثير عن أبوّته وموهبته في الصقل المعنوي وتوفير الدعم للمبتدئين كما للمتمرّسين، في تلك المهنة الصعبة حيث لا مجال للخطأ الجسيم. وقد كان مخلصاً الى درجة الطوباوية في المهنة، من دون مقابل وبلا تفريق بين فريق العمل، فكان التواضع سمته من دون تكلّف، لذا حلّ صديقاً خارج العمل وحاضناً داخله..
هذا الاخلاص جاء في الأصل كونه من جيل عرف الوفاء.
الوفاء للمبادئ في القضية العربية التي ناضل في سبيلها وفي وجه تمييز مذهبي، وهو ابن المقاصد، يريده أعداء العروبة لتمزيقها وحرفها عن قضيتها. لم يُعرف بجداله المتطرف، أو بأفكاره العدائية، بل كان مناقشاً ومقنعاً عبر عمق ثقافته وموضوعيته، وهو خريج الجامعة الأميركية، وليس عبر فرض آرائه وقناعاته بفوقية المُعلم.
يشكّل رحيل غسان المكحل خسارة كبيرة، لكن مرضه كان خسارة مهنية أكبر فقد كان ما زال في أوائل الخمسينات من العمر حين انتكس.
قبل سنوات، وبعد مواجهة والدي، ياسر نعمة، حالة شبيهة، وجّهت لغسان رسالة وجدانية خاصة، عبّرت له فيها عن حجم إدراكي، بتجربة شخصية، لمعاناته. لكن في المقابل، أيقنت مقدار السعادة بالانتصار على الألم من صور غسان نفسه محتفلاً مع عائلته بعيد ميلاده كما بصوره مبتسماً للحياة مهما كانت.. وستحفر رسالة ردّه العاطفية عليّ عميقاً في نفسي، طوال العمر..
غسان المكحل هنيئا لك راحتك.
بانتقالك الى العالم الآخر، بات في إمكانك التحرّر من مرضك.. ومن كرسيّك المتحرك.