خاص الهديل: لبنان وسورية: ضبط الجوارين أم الحدود؟!

خاص الهديل….

بقلم: ناصر شرارة 

تحتاج المفاوضات بين لبنان وسورية بخصوص مواضيع شتى وبخاصة موضوع تبادل إطلاق المساجين والموقوفين إلى قرارات شجاعة، والى انتهاج طريقة في حل العقد تقوم على منهج اعتبار أن ما حصل بالأمس ليس له صلة بما يحصل اليوم!!

ويجب الاعتراف بداية أن اعتماد منطق الفصل بين أحداث اليوم وأحداث الأمس ليس منطق دول؛ لأن الدولة تقارب أي ملف بمنطق تراكمي، وخاصة فيما لو كان هذا الملف هو ملف قانوني، وله صلة بأحكام القضاء. ولكن للضرورة أحكامها؛ وأيضاً لمصالح الدول العليا منطقها وأولوياتها.

ولا يختلف إثنان في لبنان أو إثنان في سورية على أن جبهة النصرة كانت خلال الفترة التي سبقت نجاحها بالوصول لحكم سورية ووصول أميرها لرئاسة الجمهورية، تعتبر تنظيماً إرهابياً محظوراً ومطارداً من كل العالم تقريباً. وكان لبنان جزء من هذا العالم الذي يطارد جبهة النصرة؛ ويلقي القبض على عناصرها. وأكثر من ذلك فإن لبنان الدولة خاض منذ سنوات قريبة حرباً شاملة مع جبهة النصرة التي أصبحت اليوم هي الدولة في سورية.

والواقع أن إيراد الحقائق كما هي لا يعني أن لبنان لا يريد التعامل والاعتراف بحقائق وتغيرات جذرية حدثت في سورية؛ وأبرزها هو المفارقة المتمثلة بأن 'عدو الأمس' للبنان (أي جبهة النصرة) أصبح اليوم هو الدولة الشرعية في سورية؛ وأصبح اليوم هو الجهة السورية الرسمية التي تجلس بمقابل الدولة اللبنانية لتتفق وتتفاوض معها حول تنظيم مستقبل العلاقات اللبنانية السورية.

صحيح أن إدارة الرئيس أحمد الشرع تقدم نفسها اليوم على أنها كيان سياسي خرج من عباءة جبهة النصرة أيديولوجياً؛ ولكن أرض الواقع في سورية لا يزال يشي بأن كل أطراف الحرب السورية، وليس فقط جبهة النصرة، لا تزال تحتفظ بمواقعها السياسية والعسكرية والايديولوجية؛ وأغلب الظن أن هذا الواقع سيظل موجوداً حتى تنجح العملية السياسية التي يقودها الشرع ويدعمها توماس براك وأنقرة والرياض بالوصول إلى دمج الكيانات الفصائيلية السورية داخل الجيش السوري الجديد؛ وحتى الوصول بالأساس إلى صياغة دستور جديد متوافق عليه بين كافة أطياف الشعب السوري ومكوناته المختلفة..

وحتى ذلك الوقت ستظل الإدارة الحالية السورية هي طرف يعمل جهده ليصبح نقطة محورية داخل سورية؛ وستظل هي طرف أهميته أنه يلقى الدعم الدولي كي يصبح له كامل تعبيرات الدولة.. وبهذا المعنى فإن إدارة الشرع وفق أدق توصيف علمي لها هي لا تزال إدارة انتقالية، وأبرز تحد تواجهه هو امتحان انتقالها من مرحلة أنها كانت تمثل إمارة إدلب إلى مرحلة أنها أصبحت تمثل دولة الجمهورية السورية. 

وبخصوص هذه الرحلة وهي ليست سهلة؛ ينبغي تسجيل إنجاز هام لإدارة الشرع، مفاده أنها حصدت أسرع اعتراف دولي بها يمكن أن يحصل عليه أي حكم جديد في العالم وصل إلى السلطة ليس عبر الانتخاب بل بالثورة المسلحة. وبهذا المعنى يمكن القول أن إدارة أحمد الشرع حققت الاعتراف الدولي بها – بغض النظر عن أنه مشروط أو مطلق – بوقت أسرع بكثير من حصولها على الاعتراف بها داخل سورية؛ وهو الاعتراف الذي لا يزال نيله محل اشتباك مع الدروز السوريين في الجنوب؛ ومحل تفاوض صعب مع أكراد شمال شرق سورية؛ ومحل 'تطبيع على زغل' مع علويي الساحل السوري…

والواقع أن طبيعة ملف الموقوفين السوريين في لبنان يجعل التفاوض بين لبنان وسورية له مرتبة أنه تفاوض يشبه بجوانب معينة منه، ما يحصل من تفاوض بين إدارة أحمد الشرع والمكونات السورية الداخلية الأخرى. ولأول وهلة تبدو هذه المقاربة صادمة ومستهجنة، ولكن هي جزء من الحقائق التي تفرضها نوعية التغيير الذي حصل في سورية والذي أبرز سماته أنه كان – وربما لا يزال – صادماً.

والإجابة عن سؤال كيف يكون لبنان الدولة المستقلة يبدو وكأنه جزء من تفاوض داخلي تقوم به إدارة أحمد الشرع؟؟.

هناك عدة خلفيات وأسباب تقود لإيراد هذا التشبيه؛ أبرزها أن التداخل بين لبنان وسورية هو خاصية تفرض نفسها على أية عملية تفاوض بين البلدين.. أساساً فإن كلاً من البلدين عاشا لعقود طويلة تحت نظام أنه لا يوجد تمثيل دبلوماسي بينهما، بل يوجد تمثيل يعتمد على الأمر الواقع المتداخل ليس بين حدودين بل بين جوارين. واللافت اليوم أن الوزير المثقف طارق متري المسؤول عملياً عن ملف العلاقات اللبنانية السورية يقول المرة تلو الأخرى أن المطلوب تجاوز عقد الماضي الكثيرة وفتح صفحة جديدة؛ فيما الرئيس أحمد الشرع يردد المرة تلو الأخرى أن قصر المهاجرين في عهده لن يتدخل في شؤون لبنان الداخلية وأنه سيتعامل مع لبنان على أساس دولة مقابل دولة؛ أي أنه لن يقول عن لبنان ما كان يقوله حكام سورية قبل البعث: 'الأخوة العرب في الساحل السوري' ولا كما قال البعثيون: الأخوة في القطر العربي الشقيق.

.. بالنسبة لسورية فإن كل عهد جديد أو حزب أو جماعة جديدة تحكم دمشق فإن ممثلها الذي يزور لبنان لأول مرة دائماً يقول أن إدارة بلده الجديدة ستفتح صفحة جديدة مع لبنان.. وأيضاً كل وزير خارجية لبناني منذ عهد الرئيس بشارة الخوري حتى عهد الرئيس جوزاف عون، يزور سورية ليتعرف على الحكام السوريين الجدد فيها، كان – ولا يزال – يقول: نريد فتح صفحة جديدة مع سورية في عهدها الجديد.

وتكرار هذه اللازمة بين سورية ولبنان لا تعني أن مشكلة العلاقات بين البلدين منذ استقلالهما كانت عدم وجود حكام يمتلكون الحنكة والمعرفة والكفاءة؛ بل سبب المشكلة هو أن علاقة الجوارين لها خصوصياتها التي تفرض نفسها على المتابعين لملف السوري اللبناني في كل وقت وأوان.

لعل التداخل بين الجوارين هو نعمة ونقمة؛ حتى أنه في مرات عدة كان يشار لمدى حساسية هذا التداخل من خلال القول – بمعنى الاستعارة – أن وزير داخلية سورية يجب أن تتشاور دمشق بإسمه مع بيروت، ذلك انطلاقاً من مقولة أن أمن لبنان من أمن سورية وأن استقرارهما هو من استقرار بعضهما.

وهناك لائحة طويلة من المشاكل بين البلدين التي تفرضها خصوصيات تداخل وضعيهما؛ والتي لم يكن مسؤولاً عنها عن الجانب السوري لا 'حكام سورية الليبراليون' – إن جاز التعبير – ولا 'حكامها البعثيون'، ولا الآن 'حكامها الإسلاميون' الجدد؛ بل تقع المسؤولية على عاتق ما يسمى بالتشوه الذي طال حدود البلدين خلال تخطيطها؛ وهو تشوه يطلق عليه اصطلاحاً بحدود أخطاء سايكس بيكو بين لبنان وسورية.. وهذه الأخطاء كانت مقصودة وتهدف بحسب نظريات المؤامرة إلى إبقاء علاقة لبنان مع سورية متوترة انطلاقاً من حدودهما المتداخلة على نحو يفوق الضبط؛ ومن هنا ولد مصطلح حدود الجوارين وليس حدود البلدين؛ وولد اصطلاح علاقة أخوة وخوة، الخ.. 

التحدي الكبير اليوم يتلخص بسؤال من الصعوبة بمكان الإجابة عنه؛ ومفاده هل يمكن نقل علاقات البلدين من واقع أنه تتحكم بها حدود الجوار الحبلى بأخطاء سايكس بيكو إلى واقع ترسيم حدود واضحة غير متداخلة عشوائياً؟!

ثمة تحد آخر يواجه المشتغلين في لبنان وفي سورية بموضوع ترشيد العلاقة بين البلدين وجعلها 'علاقات جديدة' وفق الاصطلاح المعتمد كلما جاء حكم جديد إلى سورية؛ ويتمثل هذا التحدي بأن تصفير السجون بين لبنان وسورية هو أمر ليس تقنياً بل سياسي وسيادي وقانوني بامتياز؛ فلبنان لم يحدث فيه انقلاب؛ والدولة التي تحكمه هي امتداد للدولة القائمة فيه منذ العام ١٩٤٣ حتى اليوم؛ وعليه فإن كل قرار قضائي بإخلاء سجين أو موقوف سوري في لبنان ستكون من تداعياته أنه سيلغي قراراً قضائياً سابقاً له. وهذا الواقع غير موجود في سورية كون النظام الجديد أعلن قطيعته القانونية والسياسية مع الدولة القديمة، وبالتالي هو حر في تصفير سجونه طالما أنه لا يعترف بكل ما قامت به الدولة التي كانت قائمة قبله، سيما وأن مبرر وجود الدولة الجديدة هو أنها نجحت في إسقاط الدولة القديمة. 

.. وحالياً توصل مبدئياً الطرفان اللبناني والسوري لحل هذه القضية القانونية الهامة؛ عن طريق اتفاقهما على إبرام معاهدة قضائية تنظم التعامل بين الدولة الجديدة السورية وبين الدولة اللبنانية القائمة، بملف إطلاق سراح السجناء بينهما. لكن في لبنان يظل هناك أمر محرج ومطلوب مراعاة القانون اللبناني بشأنه، وهو تعديل مواصفات من هو الإرهابي بموجب القانون اللبناني؛ وهل تسقط التهمة عن الإرهابي الموقوف في السجون اللبنانية في حال غيرت قيادته القديمة ايديولوجيتها باتجاه منحى معتدل؛ وهل هذا التغيير الذي حدث في قيادته يمكن إسقاطه عليه أيضاً؛ وبالتالي يصبح معتدلاً وليس متطرفاً ما يوجب على القضاء اللبناني نزع أصل التهمة عنه، وتبرئته منها ومن ثم إطلاقه ليكمل محكوميته في بلد يؤيد فكر المتهم الموقوف في لبنان!!

أسئلة كثيرة تفرض نفسها حول لبنان وسورية؛ وهي أسئلة من الطبيعي أن تبرز مع وصول عهد جديد إلى دمشق؛ والسبب ليس فقط وجود مشاكل مستجدة وقديمة بحاجة لحل؛ بل بالأساس لوجود 'أزمة تاريخية' اعتادت أن تستخدم مصطلح ضرورة فتح صفحة جديدة بين البلدين، وذلك في كل مرة يصل حكام جدد إلى قصر المهاجرين في دمشق!!