اخبار لبنان
موقع كل يوم -نداء الوطن
نشر بتاريخ: ٣ أذار ٢٠٢٥
اليوم، يذهب البطريرك الأول يوحنا مارون إلى الاحتجاب مجدّداً. يُخرجه شعبه في الثاني من آذار، ثم يعيدونه إلى نسكهِ غير الطوعيّ. عادة تتفاخر المجتمعات والدول المتطوّرة برموزها وهاماتها، تحفظ أسماءها في ذاكرتها الجماعية وحياتها العامة، وتُفرد لها الكتب والنُصُب والصروح العلمية. مسكينٌ هو 'الأب الأقدس' (اللقب الذي ناداه به أتباعه)، كأنه يُرنّم قبل وبعد كل احتفال بعيده، نشيد الجلجلة 'يا شعبي وصاحبي أين عهد الوفا...'. أو كأنّه يتلو الوصية الربّانية 'أكرم أباك وأمّك'، وهو أب الهوية المارونية وحجر الزاوية للكيان اللبناني الحرّ، أو يقول مع بداية الصوم: 'لا تصوموا عن معرفتي وهويّتكم'.
كان أوّل من طبّق فكرة الاستقلال، فقاوم البيزنطيين كما الأمويين عندما اجتاحوا لبنان، أوقف الاحتلالات والتدخلات على أنواعها وألحق الهزائم بجيوشها. هو المتمرّد على الشرق والغرب إن اعتدوا، والمتقدّم في التفاعل الحضاري والإنساني الذي تميّزت به كنيسته. بفضله ونضاله، حُفظ للحرية مكان في هذا الشرق، واستفادت منه كل المكوّنات والجماعات، لتنعم بما لن تناله في هذا الإقليم الكبير الملتهب.
أرسى يوحنا مارون نظام 'المقدّمين'. عندما تسلّم أسقفية البترون (676 م.)، نظّم أعمال المقاومة، وأسس مجموعة قيادية وأعطى لكلّ قائد منطقة، لقب 'مقدّم' ويعني المتقدّم في الخدمة، وعليه أن يتحلّى بشروط وصفات حدّدها شخصيّاً وهي صفات الفرسان، أي الشجاعة، الإقدام، النبل، الشهامة، الشرف، العفّة، الدفاع عن الضعيف والمظلوم، وأن يكون محترماً ومحبوباً من أبناء منطقته، حسن السيرة، قديساً، مترفعاً وملتزماً بكنيسته وبالإيمان الخلقيدوني. وبذلك يكون قد فرض نظاماً أقرب إلى الرهبانية على المقدّمين ورجالهم'، وفق كتاب 'هوية من تاريخ' للمؤرّخ والباحث فادي كيروز.
العودة إلى يوحنا مارون وتاريخه الذي لا مجال لذكره في بضعة سطورٍ، تهدف إلى ما قاله يوماً العلّامة الراحل السيّد هاني فحص في سياق حديثه عن الموارنة، إنّ 'اللبنانيين جميعاً بحاجة ماسة إلى قبس من الروحية التي تأسس عليها الموارنة وأدخلوها في مكوّنات لبنان'، مردفاً أنّ 'الموارنة هم أحوج إليها من غيرهم جميعاً'.
هذه الروحية لا تُبعث بتذكار سنويّ ليوم أو يومين، أو من خلال عظة فقط، أو بجهود فردية لناشطين ومناضلين في سبيل الحفاظ على الهوية وإرث يوحنا مارون.
يشير مصدر كنسيّ لـ 'نداء الوطن'، إلى أن 'الخطوة الأولى، تبدأ بكسر الخجل عن تاريخ مؤسّس الكنيسة المارونية. فاستقامة الحياة المشتركة بين المكونات اللبنانية لا تُبنى باجتزاء التاريخ أو شطبه من الكتب والمناهج التعليمية على قاعدة 6 و6 مكرّر'.
ويسأل المصدر: 'إذا كان اللبنانيون يختلفون بشأن كتاب تاريخ موحّد، وهذا مفهوم نظراً لتباين هوياتهم، ألا يجدر بالمدارس والمعاهد والجامعات المارونية أن تخصّص مادة رئيسية عن يوحنا مارون وتاريخ كنسيته؟'.
يضيف: 'من المفيد جدّاً أن تهتم مدارسنا بالعلم والثقافة والمؤهلات التقنية والتكنولوجية والموسيقى والرسم والفنون... لكن هذه المعارف كلّها تُصبح انتفاخاً وتخمةً، أو كما يقول بولس الرسول 'كنحاس يطنّ أو صنجٍ يرنّ' إذا كان شبابنا وتلامذتنا يجهلون من هو يوحنا مارون'.
المصدر توجّه إلى الرعايا والمدارس والأبرشيات سائلاً: 'من منهم ينظّم رحلات حجّ إلى قنّوبين وكفرحي وإيليج؟ من منهم يقيم دورات تربوية وفكرية دورية (وليس في مناسبات سنوية) عن تاريخ لبنان الحقيقي المشوّه في المناهج الرسمية؟'.
يختم المصدر مشدّداً على أنّ 'الهدف من استعادة الهوية ومعرفة التاريخ الذي يُشكّل يوحنا مارون عموده الفقري، ليس لدوافع طائفية ضيّقة، أو لنزعة شوفينية، إنما لصون شعبنا وأجيالنا من السير خلف تيارات وعقائد سياسية وثقافية مناهضة للبنان والإنسان. كي لا يخدعهم زعيم من هنا أو محور من هناك كما حصل في السنوات الأخيرة، وكي لا يمنّنهم أحد بأنه دافع عنهم وحماهم خدمة لمشاريعه، وجعلهم على ذمّته سياسيّاً ووطنيّاً، كأننا شعب خنوع وقاصر لا يجيد فنّ المقاومة أو الدفاع عن نفسه، فتصدق الحكمة القائلة: 'إذا أردت احتلال شعب، فنسّه تاريخه'.