سهى صباغ في معرضها الجديد: لوحة تُوثّق ولا تغفر

سهى صباغ في معرضها الجديد: لوحة تُوثّق ولا تغفر

ليست لوحة صباغ لوحة سياسية ولا تقع في فخاخ سخونة الواقع أو برودته، بقدر ما هي فيض لمشاعر وأفكار توثقها وتحيلها من ذاكرة حدثية إلى ذاكرة تاريخية.

صلبة ومليئة أعمال التشكيلية اللبنانية سهى صباغ، الفنَّانة الجريئة في الغوص عميقاً في المشهد العام ونبش تفاصيل كُلّ مَا هو خاصُّ، (إنساني ومكاني)، تُوثقه الفنانة منذ نحو 3 عقود في إنتاجات متنوعة من اللوحة إلى الأفلام الوثائقية وغيرها من الفنون البصرية التي تُتقنها وتنخرط فيها.

في معرضها الجديد 'الطريق إلى القدس' (ملتقى السفير، حتى 10 آذار/مارس الجاري) تقدم صباغ بانوراما في 40 عمل متنوع يدمج بين أساليب ومدارس فنية أكاديمية وحديثة، تصهرها التشكيلية اللبنانية وتخصّب مفرداتها في خصوصية صارمة تميز أعمالها في التأليف والتوليف في آن.

عنوان المعرض 'الطريق إلى القدس' ليس جذاباً فحسب، بل هو موقف، كما هي لوحة صباغ، لوحة موقف وانخراط الفن بالحياة ليصير نبضها تارة أو الحياة نفسها تارة أخرى، تثقب المشهد الواقعي وتقشره حتى نصاعة الحقائق، حيث الالتباس ممنوع إزاء الحرية أعلى قيم الحياة وجوهركُلّ فن وإبداع.

هذا القرب بين الحياة ولوحة سهى صباغ سجالي ومركب، مسرحي وسينمائي وروائي وشعري، يغرف من كل معين ويؤلف معينه المتمرد بمتانة واضحة، تُصوب من خلالها الفنانة على أحداث الماضي والحاضر وتقفز بها إلى ما يتجاوز آنية وقوعها، وتضيف إليها باللون والشكل ما يصنع عملاً استثنائياً يتحرر من محدودية زمنية ومكانية الأحداث ويرقى بها إلى مستوى يخلدها كقضية إنسانية لا كمادة سياسية ظرفية.

وبهذا المعنى، ليست لوحة صباغ لوحة سياسية ولا تقع في فخاخ سخونة الواقع أو برودته، بقدر ما هي فيض لمشاعر وأفكار توثقها وتحيلها من ذاكرة حدثية إلى ذاكرة تاريخية لا تأريخية، تروي حكاية القهر الفلسطيني والقهر اللبناني كقهر إنساني مديد أبعد من محليته الضيقة، فالفن هنا ابن بيئته الفكرية لا الجغرافية فقط، وبات عنوان المعرض 'الطريق إلى القدس'، طريقاً طبيعياً نحو الحرية ونهج حياة يُعيد للفن معنى أصيلاً ودوراً غائباً.

تستخدم صباغ أدوات وعناصر مخلتفة في توليد لوحتها، وتضعها في خدمة مشروع العمل كشريك جوهري كما هو حال مشاهد أعمال الفنانة يسمع صوته ويرى صوره والتداخل بين الحياة والفن، الذي توازيه الفنانة بمزج المواد المختلفة بشفافية ولو كانت العجينة اللونية سميكة يبقى التناغم الموسيقي والشعري يتقاطع على سطوح اللوحة وفي عمقها.

تعرف سهى صباغ كيف تحدد مساحة لوحتها تبعا لموضوع التأليف، وتحرص أكثر على توظيف كل ملم في عملها ولا مكان للصدف مهما كانت فاتنة، لكن هذا لا يقيدها بقدر ما يفرض تحديات تقنية وفنية على الفنانة التي تبني لوحتها كقصيدة متماسكة تضعنا أمام أسئلة لا ينتج عنها إلا أسئلة وتقاطعات كثيرة، تحرض على الحرية.

واسعة لوحة سهى صباغ بغض النظر عن 'مساحتها'، كل عمل يجمع أعمال أويمكن تجزئة كل لوحة إلى لوحات، وفي كل وجه وإشارة حكايا وأسئلة ودهشة في نص بصري يتسلل منه نصوص ببراعة فنية تؤسس للوحة منحازة، ومتطرفة بانحيازها، وهي لوحة موقف توثق ولا تغفر تلكؤ المثقف الفنان عن (الدور الطليعي)، الذي أراده له المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي.

جرأة سهى صباغ بين مجايلها من التشكليين اللبنانيين والعرب صنعت منها فنانة ومثقفة 'غرامشوية'، لوحتها كذلك أيضاً، ناضجة محرضة، تقول ببساطة الممتنع ما تريده على غزارته المشحونة بحرفية تقنية حادة وموهبة فنية فذة، تقتحم محاذير يتجنبها الآخرون، وتقف إلى جانب أولئك الثوار والمجاهدين الذين يقاتلون الظلم والاحتلال، تمجدهم وتخلدهم كأبطال، تلون قصصهم وتزرعهم في لوحة شاهدة على أمل ينبلج من الألم.