اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٠ تشرين الأول ٢٠٢٥
'السخافات' التي صنعت تاريخا بائسا لأمة ...دولة العصبية والعصبيات أم المواطنين والمواطنات؟ #عاجل
كتب د. عبدالحكيم الحسبان -
في المشهد الأحدث لتلك السلسلة الطويلة من مشاهد العنف التي تضرب هناك وهناك، وتحديدا تلك التي تكتسي طابعا جمعيا وجماعيا، راقب الاردنيون بعض ما رشح من صور وبيانات أتت اليهم من الحرم الجامعي لام الجامعات الأردنية وما يحيط به من جوار تجاري ومجتمعي. وكما درج عليه الحال في مشاهد عنفية سابقة وخصوصا تلك التي تضرب الحرم الجامعي، كان نسق التغطية الاعلامية هو ذاته أيضا. فالتغطية الاعلامية السائدة هي التي اعتادت أن تجعل من حدث يتعلق بانحراف قطار عن مساره في المانيا خبرا رئيسا في حين لا يرى صانع الاجندة الاعلامية في ما يجري على مبعدة كيلومترات منه، ما يستحق أن يخاطب ألاردنيين بشأنه. وكالعادة أيضا تعاملت الاجهزة المختصة بالدولة بمنطق التجاهل بداية ثم بمنطق تسريب خبر من بضعة اسطر يأمل صانع القرار من خلاله ان يقدم للناس جرعة بالقدر الذي يريده هو من معلومات، ولكن هذه الجرعة الصغيرة وبدلا من أن تشبع نهم القارئ فانها تحفزه مباشرة على التفرغ للبحث ومن اي مصدر كان عن أي معلومة تتعلق بالحدث . وبعد ايام من تواتر المعلومات والمعطيات وحتى الاشاعات والاكاذيب يدرك البعض جلل المصاب الذي حدث.
كانت جرعة العنف ورقعة انتشارها أكبر هذه المرة. ولكن وكالعادة أيضا، تعالت الاصوات لذات الخطاب الذي ألفناه والذي يطالب بأيقاع اقصى قدر من العقوبات بجق الطلبة المنخرطين ف حفلة الجنون الجماعي التي عاشوها وأرادوا للدولة أجهزة ومجتمعا أن يعيشوها. وكما في المرات السابقة من حفلات الجنون هذه ، فقد جرى اختزال هذه الظاهرة القديمة الجديدة بسوء السلوك، والخلق، والطوية لفئة محدودة من الطلبة الذين خرجوا عن نسق الجماعة المسالم والمتمدن. وعليه، وبرغم تعالي بعض الاصوات من خارج السرب الرسمي التي حاولت أن تتحدث بأسباب هذا العنف فقد أصر الرسمي عى اختزال الظاهرة بميل جمهرة قليلة- لا تمثل جمهور الطلبة - نحو العنف والتخريب. لم ينتبه رافعو شعار تغليظ العقوبات أنهم لم يخترعوا العجلة مطلقا، فقد سبقهم نظراء كثر لهم ممن أدمنوا على رفع شعار تغليظ العقوبات في كل مرة نشهد فيها عنفا جمعيا في الجامعات. والحال، فقد بتنا نجد أنفسنا في كل كل مرة أمام الوصفة ذاتها والعلاج ذاته في حين أن الظاهرة ما فتأت تتزايد وتتعاطم.
في تفنيد شعار تغليظ العقوبات والحاق اكبر قدر من الاذى الاجتماعي والنفسي بحق الطلبة باعتبار العقوبات تشكل رادعا كافيا، أقول لرافعي هذا الشعار أن المنظومة التي يريدون لها أن تلحق أكبر قدر من العقوبات بحق الطلبة هي ذات المنظومة التي وفرت الاسباب لهذه الانحرافات العنفية، وهي ذات المنظومة الاجتماعية الواسعة التي ستحمي الطلبة من أي نتائج وأثمان تترتب على ما اقترفوه من ممارسات مشينة. ثمة منظومة اجتماعية وثقافية وسياسية سائدة تولد هذه النمط من العنف، وهذه المنظومة ذاتها هي من يعرف الطلبة واولياء امورهم واقاربهم كيفية التلاعب بها كي يهربوا من دفع أي اثمان جراء انخراطهم في حفلات الجنون هذه.
ولان الحدث يتعلق بالجامعة الاردنية وبأم الجامعات الاردنية فقد اقتضى الحال أن يخرج معالي رئيس الجامعة د. نذير عبيدات بحديث للرأي العام داخل الجامعة وفي المجتمع الاردني الكبير حول ما جرى في الجامعة. وقبل مناقشة كلمات معالي الوزير، أصر على تسجيل احترامي لشخص معاليه وللدماثة الخلقية التي لطالما رايتها كما رأها الكثير من الاردنيين في شخصه في كل مرة يتحدث بها معاليه أو يخرج بها في حديث للناس. وعليه، فإن حديثي هو هنا عن خطاب اجتماعي واسع ومهيمن اخترق شخص معالي الوزير ورأينا معاليه يتحدث به. فحديث معاليه كان تردادا لنسق المعرفة الذي شكلته الممارسات الخطابية السائدة في مجتمعنا واستطرادا السائدة على نطاق المستوى السياسي والدولتي.
وقد كان لافتا في حديثث معاليه تشخيصه لاسباب حفلة الجنون العنفي التي عاشتها الجامعة إذ وصف السبب الذي أدى لشجار بين طالبين بالسخيف وكأنه يبدي استغرابه من أنى لسبب سخيف لمشاجرة أن يملك قوة الحشد والتعبئة لهذا العدد الغفير من الطلبة في تلك المشاجرة. وكأنه يسعى في الوقت نفسه لطمأنة الاردنيين من أن لا أسباب كبيرة وجوهرية لهذا العنف المتكرر والمتمادي. وكأن لسان حال معاليه يقول: اطمئنوا فان السبب سخيف.
ولان معاليه خبير ومختص في الطب ، فقد فات معاليه أن سخف السبب وراء المشاجرة لا يقلل مطلقا من خطورتها، بل أجزم أن سخف سبب حفلة العنف التي عشناها قبل ايام هو شبيه بمستوى السخف في كل حفلات العنف السابقة. وأن ما يجعل هذه الظواهر أمرا في غاية الخطورة هو أن الشرارة التي تشعلها هو السخيف والتافه من شؤون الحياة وأمورها. وهو ما يجب أن يجعلنا نقلق ونخاف على مصائر أوطاننا ومدننا.
ويسجل أيضا في حديث معاليه خلط معرفي كبير على صعيد تحديد موقع السخف الذي يجب أن يثير غضب الاردنيين نخبا وعامة؛ ففي حين يعلن معاليه عثوره على السخف في ذلك السبب الذي أدى للمشاجرة، فان معاليه يحجم عن يخلع هذا السخف على تلك الهويات والعصبيات الضيقة من عشائرية ومناطقية واقليمية تحيل ما هو سخيف وتافه من امور الحياة إلى معارك وصراعات وحروب وعداوات تمزق ما تبقى لوجود لوطن ومجتمع وهوية.
من ينظر في تفاصيل تاريخ الامة التي اليها ننتمي سيجد أن تاريخا ممتدا لالاف السنين كانت سمته الغالبة هي الصراعات والغزوات والحروب، وفي معظم هذه الحروب والصراعات كانت االاسباب هي من ذات الاسباب السخيفة التي تحدث عنها معالي الوزير. فداحس والغبراء وحرب البسوس نماذج صارخة من الماضي الذي عاشته هذه الامة، ومن يتأمل في تاريخ الامة فسيجد نفسه عاجزا عن تذكر تلك السلاسل الطويلة من الصراعات بين السلالات التي مثل كل منها عصبية قاتلت عصبية اخرى واطاحت بها لتصل عصبيتها هي للسلطة وتمارس البطش قبل أن تطيح بها عصبية أخرى. وفي الزمن الذي نعيش يكفي النظر الى حال العراق وسوريا وما فعلته وتفعله العصبيات، وأما في لبنان فكان يكفي لسبب سخيف مثل قارورة مياه تنورين أن تشعل سجالا بين العصبيات الطائفية بنفس القدر الذي استحالت فيه صورة ليزرية للسيد حسن نصر الله استمرت لدقائق على صخرة الروشة الى سبب كي يتقاتل اللبنانيون في الاعلام والصحافة وتستنفر العصبيات.
كيف لنا أن نلوم أجيالا تمضي كثيرا من وقتها في فضاءات العشيرة ودواوينها المفتوحة فقط أمام كل من يحملون ذات الدم لمن بنوها، في حين لم يسبق لهم أن ارتادوا فضاءات الدولة المفتوحة والممتدة من حزب ونقابة واتحادات وروابط مدنية ومدينية؟؟؟ وكيف لنا أن نلوم جيلا على عصبياته القبلية والمناطقية ونحن نمارس اقصى درجات الكرم في التغطية الاعلامية لاخبار الصلحات العشائرية في جرائم دهس وقتل وهتك عرض وهي تجري في فضاءات العشيرة ودواوينها ولكننا لم نفكر ولو لمرة واحدة في جعل مداولات المحاكم الاردنية وأحكامها مادة خبرية اعلامية من باب تكريس فكرة قضاء الدولة وقضاء المواطنة والمواطنين كي نخلق في وعي الاردنيين ما ينسجم مع ورد في دستورهم من أن الاردنيين سواسية ومتساوين، وهم أبناء للدولة لا أبناء لمجموعات تتنافس مع الدولة وتتناقض معها.
كيف لنا أن نلوم جموعا لم تعش الوطن والدولة والمواطنة كتجربة معاشة وكمنظومة من الممارسات في الشارع والمدرسة والجامعة والمحكمة والحزب والنقابة وباقي الفضاءات الدولتية المدنية ، في حين لم يعشها معظمهم الا في بعض أغنيات عمر العبداللات التي يرددها الشباب في صالات الافراح ويرقصون عليها. وكيف لنا أجيالا من الشباب باتوا يؤمنون أن العصبيات لا مبدأ المواطنة هو ما يؤمن لك وظيفة في الدولة، ومقعدا دراسيا في جامعة، وموقعا لعميد في جامعة، وهي ذاتها التي تجعلك تنجو من تبعات أي فعل جرمي نتج عن هذه العصبيات؟؟
لطالما رددت أن تهديدات اليمين الصهيوني ونتنياهو ببناء اسرائيل الكبرى لا تثير في نفسي الخوف والقلق من تلك القدرة الخارقة للكيان، فمن يرصد المشهد يدرك أن مشروع اسرائيل الكبرى هو شقيق لمشاريع سابقة مشابهة من قبيل الشرق الاوسط الكبير والجديد، وهي مشاريع فشل الاميركيون بقوة حشدهم الامبراطورية على ان ينجزوه بجيوش مليونية في العراق وافغانستان وخرجوا منهما مدحورين مهزمين، فكيف سيكون الحال بكيان باتت كل أذرعه في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والديموغرافيا معطوبة ولم تعد تعمل فيه سوى أسراب ال أف 35 وهي بالمناسبة ليست مصنعة اسرائيليا.
وأما ما يثير القلق في نفسي ويجب أن يثيره في عقل الدولة وصانع القرار هو تأصل كل تلك العصبيات والهويات القاتلة وتجذرها التي تخلق كل تلك الشقوق بين العشرة ملايين أردني وهي شقوق وتشققات ترسمها حدود العشيرة والمنطقة والاقليم والشلة، وتستثمر فيها نخب اعلامية وسياسية بعضها في الداخل وبعضها في الخارج. فعبرتلك الشقوق استطاع الصهيوني أن يتمكن في سوريا ولبنان كما في العراق وليبيا .
لافت وصادم هذا الاصرار على أن يبقى تحليل الظاهرة العنفية المتمادية محصورا في نطاق الاجتهادات الفردية والشخصية وفي نطاق الفتوى التحليلية من هذا الكاتب أو ذلك ما يعني أن هناك اصرار على رفض الغوص عميقا في ظاهرة العنف الجامعي، وعلى أن تبقى موضع غموض تتنازعه الاجتهادات الفردية والشخصية. وكأن هناك من يستثمر في انتاج العصبيات وفي اعادة انتاجها كي يفيد منها، وكي يديم شبكة من المصالح والمنافع التي يعتقد انها ستختفي اذا انتقلت الدولة من منطق البناء العصبياتي على منطق البناء المواطناتي. أتمنى على دولة رئيس الوزراء وعلى معالي نذير عبيدات وعلى المراجع العليا في الدولة أن يخطوا خطوة غير تقليدية وغير طقوسية على صعيد فهم هذه الظاهرة من خلال تشكيل طاقم علمي أردني وطني نزيه يدرس هذه الظاهرة بعيدا عن المصالح والاهواء وبعيدا عن التسطيح وترديد الاسطوانات المشروخة التي صار الاردنيون يعرفون مفرداتها في كل مرة تقع فيها الفأس في الرأس.