اخبار الاردن
موقع كل يوم -سواليف
نشر بتاريخ: ٥ أيار ٢٠٢٥
#سواليف
#مجالس_الأمناء بين #التطلعات و #التحديات
بقلم: الأستاذ الدكتور محمد تركي بني سلامة
في كل دول العالم التي تحترم التعليم والبحث العلمي، لا تُبنى الجامعات على جدران الإسمنت وحدها، بل على قواعد الحوكمة الرشيدة والقيادة الواعية والمساءلة الحقيقية. ومجالس الأمناء هي القلب النابض لهذه القيم؛ فهي التي تضع السياسات العامة، وتراقب حسن تنفيذها، وتُقيّم أداء رؤساء الجامعات، وتحرص على أن تبقى المصلحة العليا للمؤسسة الأكاديمية فوق كل الاعتبارات.
لكن، للأسف الشديد، يبدو أن هذه المعادلة البديهية باتت غائبة – أو على الأقل غير مفعّلة كما ينبغي – في عددٍ من جامعاتنا الأردنية، حيث تقلص دور بعض مجالس الأمناء ليصبح أقرب إلى هيئة استشارية ذات تأثير محدود، لا تمتلك الوزن الكافي في القرار أو التوجيه، رغم أن القانون منحها صلاحيات واضحة ومباشرة.
وفقًا لقانون الجامعات الأردني، فإن تشكيل مجلس الأمناء يجب أن يضم نخبة من الأكاديميين وأصحاب الخبرات، إلى جانب ممثلين من القطاع الصناعي والخدمي، في إطار سعي الدولة لربط الجامعة بسوق العمل وخدمة التنمية. وهي رؤية صائبة من حيث المبدأ. لكن، كما هو الحال في كثير من التجارب الأردنية، يكمن الخلل في التنفيذ لا في التنظير.
لقد أدى تقليص تمثيل الأكاديميين لصالح غير المتخصصين إلى تراجع البعد الأكاديمي في إدارة الجامعة، فتقدّمت الحسابات الضيّقة على الأولويات الوطنية، وغابت الرؤية التعليمية لصالح اعتبارات خارجة عن سياق الدور الأكاديمي.
ويزداد المشهد خطورة عندما يتحوّل بعض رؤساء مجالس الأمناء إلى متفرّدين في القرار، ينفردون بالرأي، ويتخذون المواقف دون الرجوع إلى بقية الأعضاء، أو حتى عرض القضايا الحيوية للنقاش. الأخطر من ذلك، هو ما نلمسه من تواطؤ صريح أو ضمني مع رؤساء الجامعات، فيغضّ الطرف عن التجاوزات، ويمنح الثقة بلا حساب، وكأننا أمام شراكة لا رقابة، وتحالف لا مساءلة. وهذا ينسف فلسفة وجود المجلس من الأساس.
وفي الوقت الذي تنجح فيه بعض المجالس في أداء دورها على أكمل وجه، فتواكب قضايا الجامعة، وتتابع الأداء، وتساهم في التطوير، نرى مجالس أخرى غارقة في الغياب، لا تجتمع إلا لمامًا، ولا تناقش إلا ما يُعرض عليها بصورة مجتزأة. في كثير من الحالات، لا تعقد المجالس اجتماعاتها الدورية، كما ينص القانون، بل تكتفي بلقاء كل ثلاثة أو أربعة أشهر، وتكتفي بدور شكلي لا يتعدى التصديق على ما يُعرض من الإدارة، دون تدقيق أو مساءلة.
وهنا يبرز السؤال الكبير: ما جدوى وجود مجلس أمناء إذا لم يكن قادرًا على مساءلة رئيس الجامعة أو التدقيق في اختياراته الإدارية أو التصدي للاختلالات المالية والإدارية؟
لا يمكن أن نقبل أن يُترك مستقبل الجامعات رهينة لأمزجة أفراد أو تفاهمات خلف الأبواب المغلقة. لا يمكن أن نستمر في التغاضي عن تضارب المصالح الصارخ الذي يمارسه بعض الأعضاء – من إنشاء شركات، أو تمرير صفقات، أو استغلال الموقع لمصالح شخصية. لا يمكن أن نصمت على أداء باهت لبعض الأعضاء الذين لا يحضرون، وإن حضروا لا يشاركون، وكأنهم نالوا عضويتهم كمكافأة لا كمهمة وطنية.
بل الأخطر من ذلك، أن بعض أعضاء هذه المجالس يفتقرون إلى الحد الأدنى من الفهم الأكاديمي والمهني لواقع الجامعات وتحدياتها، ويصبح بقاؤهم فيها عبئًا على مؤسساتنا لا قيمة مضافة لها.
وهنا، لا بد من تنبيهٍ صريح لمجالس الأمناء كافة، بأنه لم يعد مقبولًا التغاضي عن الأداء الباهت، ولا السكوت عن الغياب المتكرر، أو عن سلوكيات بعض الأعضاء التي لا تليق بالموقع ولا تشرّف الثقة التي منحها لهم القانون والدولة. إن في الجامعة من يتابع ويرصد، ومن يسجل بالصمت أحيانًا، لكنه لا ينسى. ومن المهم تذكير المجلس – رئيسًا وأعضاء – بأن الأمانة مسؤولية، وأن التهاون فيها خيانة لمستقبل الوطن وطلابه ومؤسساته.
ومن هنا، فإننا نطالب بإجراء تقييم شامل ودوري لأداء مجالس الأمناء، وفق معايير واضحة وشفافة، تشمل عدد الاجتماعات، مستوى المشاركة، القرارات المتخذة، الأثر الفعلي على أداء الجامعة، ومدى التزام المجلس بدوره الرقابي والتوجيهي. ولا يكفي أن نبقي الأمور على حالها بدافع المجاملة أو الاعتبارات السياسية، لأن الجامعات ليست حقل تجارب ولا ساحة لتوزيع المكاسب.
كما ندعو إلى إعادة النظر في آلية تعيين رؤساء وأعضاء هذه المجالس، بما يضمن تمثيلًا حقيقيًا للأكاديميين، ويحدّ من تضارب المصالح، ويعزز من معايير الكفاءة والنزاهة والخبرة الأكاديمية.
نحن أمام لحظة مفصلية في مسيرة التعليم العالي في الأردن، خصوصًا في ظل التوجهات الجديدة لإلغاء وزارة التعليم العالي، ودمجها ضمن هيكل إداري أكبر. وهذا يستدعي أن تكون المجالس على قدر المسؤولية، وأن تتحوّل إلى أذرع إصلاح ومساءلة لا أدوات تبرير ومحاباة.
الجامعات الأردنية اليوم بأمس الحاجة إلى مجالس أمناء تفهم أنها ليست مجرد منصب شرفي، بل مسؤولية أخلاقية ووطنية، تتطلب الجرأة، والوعي، والاستقلالية. وكل تأخير في تصويب هذا الخلل، هو طعنة في خاصرة التعليم، وتأخير لمسيرته، وتشويه لصورة الوطن الذي يفتخر بعلمائه ومؤسساته.
وللحديث بقية، ما دام في القلب حبر، وفي العقل وطن.