اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٧ تشرين الأول ٢٠٢٥
البعد الدستوري والسياسي للشورى في النظام السياسي الأردني
المحامي معاذ وليد ابو دلو
تتعد الشورى مبدأً أساسياً في بناء الدول الحديثة وتنظيم سير عملها، فهي ليست مجرد ممارسة شكلية بل اداة دستورية وسياسية تعكس نهج الدولة في إشراك مختلف المكونات الوطنية في صياغة القرار أو الأطلاع على كيفية اتخاذه . وعلى مر المراحل التاريخية التي مرت بها المملكة الأردنية الهاشمية، ظل هذا المبدأ حاضراً في إدارة الشأن العام، حيث أدركت القيادة ان الدولة لا يمكن ان تعيش في عزلة عن محيطها الإقليمي المشتعل ولا عن التحديات الدولية المتسارعة، الأمر الذي يفرض ضرورة التشاور الدائم مع أصحاب الخبرة والتجربة.
وفي كل مرحلة حساسة من عمر الدولة، يحرص رأس الدولة على الاجتماع بمجموعة من الشخصيات ذات الثقل السياسي والقانوني والإعلامي والعسكري والاقتصادي، لوضعهم في صورة المستجدات على الساحتين الداخلية والخارجية. وتأتي هذه اللقاءات بمثابة تجسيد عملي لمبدأ الشورى، حيث يتم عرض التطورات والوقوف على التحديات، سواء ما يتعلق بالسياسة الخارجية وانعكاساتها على الداخل الأردني، أو ما يرتبط بتعزيز الجبهة الداخلية وصون المصلحة الوطنية واستكمال المشاريع الوطنية.
آخر هذه اللقاءات كان الأسبوع الماضي، حين اجتمع جلالة الملك بعدد من رؤساء الحكومات السابقين، وهم الذين تولوا رئاسة السلطة التنفيذية بحكم الدستور الأردني، وتحديداً استناداً إلى المادة (45) التي نصّت على أن 'يتولى مجلس الوزراء إدارة جميع شؤون الدولة الداخلية والخارجية باستثناء ما قد عهد أو يعهد به من تلك الشؤون بموجب هذا الدستور أو اي تشريع آخر إلى أي شخص أو هيئة أخرى”. هذه المادة تبرز بوضوح أن رؤساء الوزراء السابقين مارسوا صلاحيات سيادية أصيلة وحكموا خلال فترة رأستهم ، ما يجعل حضورهم في مثل هذه اللقاءات امتداداً لدورهم الدستوري السابق، وإن كان بصيغة استشارية لا تنفيذية.
ورغم اختلاف تقييم الرأي العام لأداء بعض هؤلاء الرؤساء أثناء توليهم مهامهم التنفيذية، فإن إشراكهم في المشهد يعد خطوة إيجابية تعزز من قيم الشورى والمشاركة السياسية، وتدعم مبدأ تداول الخبرة والمعرفة في خدمة الدولة. فالحوار مع من تولوا إدارة شؤون الدولة يتيح الاستفادة من تجاربهم العملية، كما يمنح الرأي العام انطباعاً بأن الدولة حريصة على الاستماع لجميع الأصوات ذات الخبرة، بصرف النظر عن التباين الشعبي حول سياسات سابقة.
من زاوية أخرى، فإن هذه اللقاءات تحمل أبعاداً سياسية ودستورية مهمة. فمن الناحية الدستورية، تترجم هذه اللقاءات مبدأ الحكم للسلطة التنفيذية التي نص عليها الدستور، وتمنح بعداً تشاورياً يتكامل مع نصوص المواد التي تنظم عمل السلطات الثلاث وتوازنها. أما من الناحية السياسية، فهي تشكل رسالة بأن الدولة الأردنية تتبنى مبدأ المشاركة في صناعة القرار، بما يعزز ثقة المواطن بمؤسسات الحكم ويرسخ مبدأ الشفافية ومعرفة ما يدور من أحداث حوله.
ولا يقتصر الأمر على البعد الرسمي، بل يمتد إلى تعزيز حضور هذه الشخصيات في الحياة العامة. فمعظم رؤساء الحكومات السابقين ينخرطون، بدرجات متفاوتة، في المناسبات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهو ما يجعلهم قادرين على نقل توجهات الدولة ورسائلها إلى شرائح واسعة من المواطنين والشارع
. ووجودهم في المشهد يتيح تمرير رسائل محددة للرأي العام، سواء من خلال تصريحات مباشرة أو عبر ملاحظات يتم تداولها في الإعلام، بما يساعد المواطن على فهم الاتجاهات العامة للدولة وإدراك حجم التحديات المحيطة بها.
إن الدولة الأردنية، عبر هذه اللقاءات، لا تمارس مجرد تشاور سياسي، بل تؤكد على نهج راسخ يقوم على الجمع بين المشروعية الدستورية والفاعلية السياسية. وهذا النهج يرسّخ مكانة الأردن كنظام يقوم على التوازن بين السلطات، وعلى إشراك أصحاب القرار السابقين في صياغة الرؤية المستقبلية. وهو ما يضمن، في نهاية المطاف، تعزيز الجبهة الداخلية وتوحيد الصف الوطني في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية المتصاعدة.
لهذا فإن الشورى ليست مجرد قيمة تاريخية أو مبدأ فحسب، بل هي ممارسة دستورية وسياسية حاضرة في التجربة الأردنية، تترجمها لقاءات الملك مع النخب الوطنية، وتنعكس على استقرار الدولة وثقة شعبها بمؤسساتها.