اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٦ تشرين الأول ٢٠٢٥
وساطَة أردوغان: عودةٌ محفوفة بالنّار.
أزهر الطوالبة
لم تكن زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى البيت الأبيض مجرّد حدثٍ بروتوكوليٍّ عابر، بل كانت، في جوهرها، إعلانًا عن عودة تركيا إلى قلب هندسة الشرق الأوسط من بوّابةٍ أميركية. فبعد لقائه بالرئيس دونالد ترامب، بات واضحًا أنّ أنقرةَ حصلت على تفويضٍ غير مُعلن لتلعب دورَ الوسيط في تنفيذ 'خطة ترامب' الجديدة، التي تهدف إلى إنهاء الصراع (الإبادَة الإسرائيليّة) بين حماس وإسرائيل، تحت عنوانٍ فضفاض هو 'وقف الحرب وبداية الإعمار'.
لكن، هذه الوساطة التي تبدو في ظاهرها خطوة نحو السلام، تحمل في باطنها توازناتٍ معقّدة، قد تعيد رسم العلاقات التركية – الإسرائيلية، وتبدّل مسارَ العلاقة المتقلّبة بين أنقرة وواشنطن.
وعلى الأرجَح، فإنّ هذه الزّيارة، قد خلَّصت تركيا من عُزلتها الدبلوماسية. إذ أنّها، منذُ سنوات، تُحاول أن تستعيدَ موقعها في الملف الفلسطينيّ، بعدما همّشتها القاهرة، ومِن خلفها الخليج، في جولاتِ التهدئة السابقة. واليوم، وجدَت الفُرصة سانحة لتثبيت نفسها بوصفها 'الوسيط الإسلامي القادر على التفاهم مع الجميع': مع واشنطن بحكمِ التحالُف التاريخيّ، ومع حماس بحكم القُرب الأيديولوجي، ومع تل أبيب بحكم المصالحِ الاقتصادية.
بهذه الوساطة، تُعيد أنقرة ترميم صورتها كقوةٍ سياسيّة، قادرة على الجمع بين لُغة 'المقاومة' ولغة 'الدبلوماسية'، وتستثمر الميدان الفلسطينيّ لتثبيت شرعيّتها في الإقليم، خصوصًا بعدما تراجع وهجها في ملفاتٍ مِن مثِل: ليبيا وأذربيجان.
مكاسب مُحتملة. لكن، بشروطٍ إسرائيليّة
من الجانب الإسرائيلي، لا تخفي تل أبيب ارتياحها لأن تلعب أنقرة هذا الدور، فتركيا —على عكس بعض الوسطاء العرب— تملك قنواتَ اتصالٍ مُباشِرة مع قيادة حماس، وتستطيع التأثير عليها في ملفات الأسرى ووقف إطلاق النار. إلّا أن إسرائيل، في المقابل، لن تمنح أنقرة دورًا مجانيًا، بل ستُحاصرها بشروطٍ أمنية دقيقة: مراقبة الممرات الإنسانية، ضبط أي نشاط عسكري في غزة، وتقديم ضمانات واضحة بألّا تعود الفصائل للتسلّح.
وبين هذه الشروط، ستجد أنقرة نفسها تمشي على حبلٍ مشدود. فإن التزمت بها حرفيًا، بدت وكأنها تُنفّذ الرؤية الإسرائيلية، وإن تجاوزتها، خسرت ثقة واشنطن وتل أبيب معًا.
وهذه الثِّقة مرهونة بنجاحِ تنفيذ الخطّة. ففي هذه الحالَة، ستجِد تركيا نفسها على أعتاب مرحلةٍ جديدة من 'الواقعيّة السياسيّة' مع إسرائيل، دونَ أن يكونَ هناكَ تطبيع عاطفيّ، خاصةً، بعدَ عقودٍ مِن الخِطابات الحادّة حولَ القُدسِ وغزّة. وهذا يعني، أنّ هذه الواقعيّة ستكون في إطارِيّ التنسيقِ الأمنيّ والتنسيق الإقتِصادي، اللّذان سيعودانِ بشكلٍ هادئ، ورُبّما يكون ذلك عبرَ قنواتٍ أميركيّة.
تدرك إسرائيل أنّ أنقرة، مهما رفعت مِن شِعارات، تبقى بوابة مهمّة لأسواق الطاقة والغاز في شرقِ المتوسِّط، وتُدرك كذلك أنّ التعاونَ مع تركيا أكثر أمانًا من الاعتماد المُفرط على حلفاءٍ جٌدد لا يملكونَ أدوات التأثير ذاتها.
أمّا بالنسبة لواشنطن، فإنَّ الوساطة التُركيّة تمثّل فرصةً مضاعفة. فهي تضمن تنفيذ الخُطة بأقلِّ كلفة ميدانيّة، وتُعيد احتواء أنقرة التي كانت قد اقتربت كثيرًا من موسكو وبكّين. أمّا أردوغان، فيعرف أنّ نجاحه في هذا الدّور قد يفتح أمامه أبوابًا كانت مغلقة: صفقة الطائرات 'إف-35'، تخفيف القيود الاقتصادية، وربما دعم أميركي أكبر في ملفات البحرِ الأسود وسوريا.
لكن، هذه العلاقة أيضًا هشّة. فأيّ فشلٍ في الوساطة سيُستثمر سريعًا في واشنطن ضدّ أنقرة، خاصة من داخل الكونغرس الذي لا ينسى صفقات 'إس-400' الروسية ولا ملفات حقوق الإنسان.
على كُلٍّ، هذه الوساطة، هي بمثابَة مُغامَرة، وقد تدفع تركيا ثمنًا داخليًا لهذه المُغامرة. فالرأي العام التركي، المُتعاطِف بشدّةٍ مع فلسطين، قد يرى في وساطة أردوغان نوعًا من 'تليين الموقف' أو 'مساومة مع إسرائيل'. ولذا، سيُحاول الرئيس التركي تسويق دوره ك'دبلوماسيّة لخدمة المقاومة' لا 'تطبيعًا مقنّعًا'، وهي مُعادلةٌ تحتاج إلى خطابٍ ذكي وإدارة دقيقة للصور والرموز.
خِتامًا، بين واشنطن وتل أبيب وغزة، تُدير أنقرة خيوطًا معقّدة من السياسة، بحثًا عن موقعٍ جديد في خريطة الشرق الأوسط المتغيّرة. نجاحها في الوساطة قد يُعيدها إلى دائرة الفعل الإقليمي بعد سنواتٍ من الانكماش. لكن، فشلها قد يتركها في موقعٍ لا تُحسد عليه: فقدت ثقة المقاومة، ولم تنل مكافأة الغرب.
إنّها وساطة محفوفة بالنار. فإن أمسكَت بها تركيا بحذرٍ سياسيٍّ دقيق، فقد تكتب فصلًا جديدًا في دبلوماسيتها، وإن تسرّعت، فقد تحرق أصابعها في لهيبٍ أشعلته بنفسها.