اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة مدار الساعة الإخبارية
نشر بتاريخ: ٧ أيار ٢٠٢٥
منذ أن تولت حكومة الدكتور جعفر حسان مهامها قبل أكثر من مئتي يوم، لم تلح الثقافة في أفق السياسات العامة للدولة الأردنية، ولم ترد في أي من تصريحات رئيس الوزراء، كما لم تظهر الثقافة مطلقا في أولويات الفريق الوزاري، ورغم ما يحمله الرئيس من خبرة اقتصادية وسياسية، إلا أن الثقافة بقيت غائبة من وعن ذهن الحكومة، وكأنها ترف لا ضرورة له، أو فائض يمكن تأجيله إلى أجل غير مسمى.في استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية الأخير الذي جاء بعد مرور مئتي يوم على تشكيل الحكومة، لم تُذكر الثقافة لا من قريب ولا من بعيد. لا في أسئلة المركز ولا في أولويات المواطنين، ولا في تقييمهم للحكومة، وبالنتيجة ولا حتى في مؤشرات الإنجاز، الأمر الذي يشي أن 'العقل السياسي' لا يرى في الثقافة مكونًا حاسمًا في نهضة الدولة، أو حجر زاوية في بناء الثقة المجتمعية، أو أداة لصيانة الهوية الوطنية والحفر المعرفي في وعي الأجيال.لم نشهد حضورًا فعليًا للدكتور جعفر حسان في المشهد الثقافي؛ لا عبر رعاية فعلية لمؤتمر، ولا بمبادرة تجاه الكتّاب والمثقفين والفنانين، ولا حتى من خلال خطاب يتضمن رمزية ثقافية أو إشارات تُعطي الانطباع أن الحكومة تعترف بقيمة المثقف في معادلة البناء الوطني، وحتى وزارة الثقافة، نفسها، بقيت في الظل دون حراك جديد، ورهينة نهج الروتين اليومي المستمر منذ عقود، بلا تجديد في الخطاب الثقافي أو تبديل في الأدوات، ودون قدرة على التأثير أو على فتح حوار جديد في صفوف طبقة المثقفين.في المقابل، يُظهر التاريخ السياسي في دول أخرى، كيف أن الحكومات الذكية 'استثمرت' حقيقة في الثقافة والمثقفين. فرانكلين روزفلت، مثلا، أنقذ كتّاب الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي حين أطلق 'مشروع الكتّاب الفيدرالي' (Federal Writers’ Project)، الذي أتاح فرصًا للمبدعين في خضم الكساد الكبير، فيما جعل الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران من المثقف شريكًا في بناء الجمهورية الخامسة، وكانت الثقافة في عهده تُناقش على طاولة مجلس الوزراء، وأيضا، نجد أن نيلسون مانديلا كان لا يتخلى عن الشعر في خطاباته، وصديقا لمثقفي جنوب أفريقيا، باعتبارهم حماة الذاكرة الوطنية.نكرر، دوما، أن الفعل الثقافي ليس ترفًا نخبويًا كما قد يتوهم البعض، بل هو القوة الدافعة في تشكيل وعي الجماهير، وصياغة الحس العام، وتحديد معنى المواطنة والمصلحة الوطنية الاستراتيجية؛ فالثقافة، بمنطقها العميق، هي الحامل الأساسي لأي تحول سياسي حقيقي، لأنها هي التي تُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الفرد والسلطة، وبين الحاضر والماضي لرسم ملامح المستقبل.ولعل من أهم ما يجب تذكير الحكومات به، أن دور المثقف لا يقتصر على النقد أو التنظير، بل يتجاوز ذلك إلى إسناد السياسي ومرافقته، بوصف المثقف صاحب التأثير المعرفي العميق والممتد، الذي قد لا يُثمر سريعًا، لكنه يرسّخ في وجدان الشعوب ما لا تقدر عليه المواقف السياسية المتبدّلة؛ فالمثقف يُنتج الوعي، بينما السياسي يُدير الواقع. وإن بدا العمل السياسي أكثر حضورًا، فإن أثر العمل الثقافي أكثر رسوخًا واستدامة. وقد تُغيّر خطبة سياسي موقفًا، ولكن رواية أو كتاب قد يغير سلوك جيل وضمير مجتمع. وهذا ما يجعل الأثر الثقافي يفوق العمل السياسي من حيث العمق والبقاء.إذا كانت الحكومات تُحب أن تتباهى بمؤشرات الأداء والمؤتمرات الاقتصادية، فعليها أن تدرك أن الثقافة هي البنية التحتية الأكثر استدامة لأي إصلاح، وأن الاستثمار في الرأسمال الثقافي (cultural capital) ليس أقل أهمية من الاستثمار في البنية الاقتصادية؛ فالمجتمعات لا تُقاس فقط بما تُنجزه من مشاريع، بل بما تُنتجه من وعي يستمر.السؤال اليوم: ما موقع المثقف الأردني من مشروع الدولة؟ وهل يمكن للحكومة أن تبني عقدًا اجتماعيًا جديدًا أو أن تُصلح ثقة متآكلة؟ لا يكفي أن تتحدث الحكومة عن فرص اقتصادية وتحولات إدارية إن كانت لا تلتفت إلى الأرض التي تُنتج المعنى وتؤسس للانتماء، وإن غياب الثقافة من ذهن الحكومة ليس تفصيلاً صغيرًا، بل هو مؤشر خطير على قصور في الأداء السياسي العام، وضعف إدراك من الدولة لأهمية القوة الناعمة (soft power)، ولما يمكن أن تلعبه الثقافة في بناء الاستقرار، وتشكيل الرأي العام، وتعزيز صورة البلاد في الداخل والخارج.في النهاية، لا بد للحكومة أن تؤمن أولا بدور الثقافة الحقيقي كمشروع وطني معرفي وضروري ومتكامل نحو التغيير والتقدم ثم بعد ذلك يأتي الحديث عن الأدوات.بعبارة ثانية؛ عندما حاصر النازيون أبواب موسكو عام 1941، كان ستالين يستنهض همم الشعب الروسي عبر الإذاعة بخطاب ثقافي قائلاً: 'اخرجوا للدفاع عن وطن بوشكين وتولستوي'! فالأوطان تُنسب لمثقفيها ومبدعيها كما تُنسب لقادتها ورموزها السياسية. يذكرنا التاريخ دوما أن فرنسا هي بلد فيكتور هيغو كما هي بلد نابليون، ولا أحد يذكر بريطانيا دون شكسبير، وحين نقول روسيا نعرف أنها بلد لينين لكنها أيضا موطن ديستويفسكي وتولستوي وغوغول، أما داغستان فلا أظن أن كثيرين سمعوا بها لولا رسول حمزاتوف.
منذ أن تولت حكومة الدكتور جعفر حسان مهامها قبل أكثر من مئتي يوم، لم تلح الثقافة في أفق السياسات العامة للدولة الأردنية، ولم ترد في أي من تصريحات رئيس الوزراء، كما لم تظهر الثقافة مطلقا في أولويات الفريق الوزاري، ورغم ما يحمله الرئيس من خبرة اقتصادية وسياسية، إلا أن الثقافة بقيت غائبة من وعن ذهن الحكومة، وكأنها ترف لا ضرورة له، أو فائض يمكن تأجيله إلى أجل غير مسمى.
في استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية الأخير الذي جاء بعد مرور مئتي يوم على تشكيل الحكومة، لم تُذكر الثقافة لا من قريب ولا من بعيد. لا في أسئلة المركز ولا في أولويات المواطنين، ولا في تقييمهم للحكومة، وبالنتيجة ولا حتى في مؤشرات الإنجاز، الأمر الذي يشي أن 'العقل السياسي' لا يرى في الثقافة مكونًا حاسمًا في نهضة الدولة، أو حجر زاوية في بناء الثقة المجتمعية، أو أداة لصيانة الهوية الوطنية والحفر المعرفي في وعي الأجيال.
لم نشهد حضورًا فعليًا للدكتور جعفر حسان في المشهد الثقافي؛ لا عبر رعاية فعلية لمؤتمر، ولا بمبادرة تجاه الكتّاب والمثقفين والفنانين، ولا حتى من خلال خطاب يتضمن رمزية ثقافية أو إشارات تُعطي الانطباع أن الحكومة تعترف بقيمة المثقف في معادلة البناء الوطني، وحتى وزارة الثقافة، نفسها، بقيت في الظل دون حراك جديد، ورهينة نهج الروتين اليومي المستمر منذ عقود، بلا تجديد في الخطاب الثقافي أو تبديل في الأدوات، ودون قدرة على التأثير أو على فتح حوار جديد في صفوف طبقة المثقفين.
في المقابل، يُظهر التاريخ السياسي في دول أخرى، كيف أن الحكومات الذكية 'استثمرت' حقيقة في الثقافة والمثقفين. فرانكلين روزفلت، مثلا، أنقذ كتّاب الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي حين أطلق 'مشروع الكتّاب الفيدرالي' (Federal Writers’ Project)، الذي أتاح فرصًا للمبدعين في خضم الكساد الكبير، فيما جعل الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران من المثقف شريكًا في بناء الجمهورية الخامسة، وكانت الثقافة في عهده تُناقش على طاولة مجلس الوزراء، وأيضا، نجد أن نيلسون مانديلا كان لا يتخلى عن الشعر في خطاباته، وصديقا لمثقفي جنوب أفريقيا، باعتبارهم حماة الذاكرة الوطنية.
نكرر، دوما، أن الفعل الثقافي ليس ترفًا نخبويًا كما قد يتوهم البعض، بل هو القوة الدافعة في تشكيل وعي الجماهير، وصياغة الحس العام، وتحديد معنى المواطنة والمصلحة الوطنية الاستراتيجية؛ فالثقافة، بمنطقها العميق، هي الحامل الأساسي لأي تحول سياسي حقيقي، لأنها هي التي تُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الفرد والسلطة، وبين الحاضر والماضي لرسم ملامح المستقبل.
ولعل من أهم ما يجب تذكير الحكومات به، أن دور المثقف لا يقتصر على النقد أو التنظير، بل يتجاوز ذلك إلى إسناد السياسي ومرافقته، بوصف المثقف صاحب التأثير المعرفي العميق والممتد، الذي قد لا يُثمر سريعًا، لكنه يرسّخ في وجدان الشعوب ما لا تقدر عليه المواقف السياسية المتبدّلة؛ فالمثقف يُنتج الوعي، بينما السياسي يُدير الواقع. وإن بدا العمل السياسي أكثر حضورًا، فإن أثر العمل الثقافي أكثر رسوخًا واستدامة. وقد تُغيّر خطبة سياسي موقفًا، ولكن رواية أو كتاب قد يغير سلوك جيل وضمير مجتمع. وهذا ما يجعل الأثر الثقافي يفوق العمل السياسي من حيث العمق والبقاء.
إذا كانت الحكومات تُحب أن تتباهى بمؤشرات الأداء والمؤتمرات الاقتصادية، فعليها أن تدرك أن الثقافة هي البنية التحتية الأكثر استدامة لأي إصلاح، وأن الاستثمار في الرأسمال الثقافي (cultural capital) ليس أقل أهمية من الاستثمار في البنية الاقتصادية؛ فالمجتمعات لا تُقاس فقط بما تُنجزه من مشاريع، بل بما تُنتجه من وعي يستمر.
السؤال اليوم: ما موقع المثقف الأردني من مشروع الدولة؟ وهل يمكن للحكومة أن تبني عقدًا اجتماعيًا جديدًا أو أن تُصلح ثقة متآكلة؟ لا يكفي أن تتحدث الحكومة عن فرص اقتصادية وتحولات إدارية إن كانت لا تلتفت إلى الأرض التي تُنتج المعنى وتؤسس للانتماء، وإن غياب الثقافة من ذهن الحكومة ليس تفصيلاً صغيرًا، بل هو مؤشر خطير على قصور في الأداء السياسي العام، وضعف إدراك من الدولة لأهمية القوة الناعمة (soft power)، ولما يمكن أن تلعبه الثقافة في بناء الاستقرار، وتشكيل الرأي العام، وتعزيز صورة البلاد في الداخل والخارج.
في النهاية، لا بد للحكومة أن تؤمن أولا بدور الثقافة الحقيقي كمشروع وطني معرفي وضروري ومتكامل نحو التغيير والتقدم ثم بعد ذلك يأتي الحديث عن الأدوات.
بعبارة ثانية؛ عندما حاصر النازيون أبواب موسكو عام 1941، كان ستالين يستنهض همم الشعب الروسي عبر الإذاعة بخطاب ثقافي قائلاً: 'اخرجوا للدفاع عن وطن بوشكين وتولستوي'! فالأوطان تُنسب لمثقفيها ومبدعيها كما تُنسب لقادتها ورموزها السياسية. يذكرنا التاريخ دوما أن فرنسا هي بلد فيكتور هيغو كما هي بلد نابليون، ولا أحد يذكر بريطانيا دون شكسبير، وحين نقول روسيا نعرف أنها بلد لينين لكنها أيضا موطن ديستويفسكي وتولستوي وغوغول، أما داغستان فلا أظن أن كثيرين سمعوا بها لولا رسول حمزاتوف.