اخبار الاردن
موقع كل يوم -صحيفة السوسنة الأردنية
نشر بتاريخ: ٦ كانون الأول ٢٠٢٥
لا تخطئ العين تلك الصورة المتكررة : سفير أمريكي في العاصمة عمّان، يجوب المجالس العشائرية، ويلتقي الشخصيات البارزة خارج الأضواء الرسمية، في حركة تبدو للبعض جزءاً من العمل الدبلوماسي الطبيعي، ولآخرين نشاطاً مريباً يلامس شريان الأمن القومي.
الحقيقة أكثر تعقيداً وأشد خطراً، خاصة عندما نعرف أن هذا السفير تحديداً هو جيمس ج. هول، الرجل القادم من قلب المؤسسة العسكرية والأمنية الأمريكية، حامل ملفات إيران والخليج والعراق الساخنة، والضابط السابق في قوات المارينز.
ليس دبلوماسياً تقليدياً، بل 'رجل المهمات الصعبة' الذي يجيد تحويل المجاملة إلى أدوات ضغط، واللقاء العابر إلى قناة نفوذ.
تستند الدبلوماسية التقليدية على بروتوكولات واضحة وقنوات رسمية، لكن الدبلوماسية الجديدة، أو ما يُسمى 'دبلوماسية القوة الذكية'، تعمل في المساحات الرمادية, عندما يتحرك سفير بهذه الخلفية الحربية-الاستخبارية بحرية بين مفاصل المجتمع، فإنه لا يبحث عن الصداقة بقدر ما ينقب عن نقاط الضعف.
كل لقاء مع عشيرة أو شخصية مؤثرة خارج الإطار الرسمي هو عملية مسح للتربة الاجتماعية، بحثاً عن الشقوق الخفية، وقياساً لدرجة التجذر الحقيقي للثوابت الوطنية، ورصداً لأي استعداد للانشقاق أو الاستجابة للإغراء عندما تحين الحاجة .
المعلومات التي يجمعها – عن هموم اقتصادية، أو تذمر سياسي، أو طموحات شخصية – لا تذهب لتقارير أكاديمية، بل إلى ورشة صناعة القرار في واشنطن، حيث تتحول إلى 'رافعات ضغط' تُستخدم عند الحاجة في المفاوضات السياسية أو الاقتصادية المصيرية.
الخطر لا يكمن في التجسس التقليدي الذي عفى عليه الزمان ، بل في بناء 'شبكات الولاء الموازية', فمن خلال سلسلة من الدعوات واللقاءات التي تبدأ بـ 'صحن الحمص' – كما يذكر المحللون – تُبنى علاقات شخصية تبدو بريئة.
هذه العلاقات هي البذرة التي قد تتحول، في أوقات الأزمات أو المواقف الحاسمة، إلى أدوات ضغط 'شعبية' مبرمجة, قد تظهر فجأة أصوات 'مستقلة' أو تحركات 'مجتمعية' تدعو لمواقف تتطابق مع الأجندة الخارجية، مسببة شقاً بين إرادة الدولة ومزاج الشارع المُصطنع, هذه هي الحرب الناعمة في أخطر أشكالها: حين يصبح المواطن، عن طيب خاطر أو دون وعي، أداة في آلة التأثير الخارجي.
هنا يطفو سؤال مصيري: أين الخط الأحمر؟! يبدو أن هناك فجوة خطيرة بين تأكيدات السيادة وبعض الممارسات على الأرض, فبينما نرفع شعار 'الشعب الواعي والمضياف'، نسمح بحرية حركة تتجاوز الأعراف الدبلوماسية، وتخترق الحيز الأمني تحت مظلة المجاملة.
تاريخنا يقدم لنا نماذج أكثر حصانة، فقادة مثل وصفي التل وهزاع المجالي كانوا يفرقون بوضوح حاسم بين الضيف الذي يُكرّم والعدو الذي يُستباح مجاله, كانوا يفهمون أن الدبلوماسية في منطقة ملتهبة مثل شرقنا الأوسط ليست حفلات استقبال، بل هي جبهة من جبهات الصراع.
التهديد الحقيقي ليس في وجود سفير نشط، بل في 'عقلية الانفتاح غير المحسوب' التي تتعامل مع تحركاته على أنها علامة تقدير دولي، بينما هي في حقيقتها اختراق ممنهج.
الأمن القومي لم يعد يحميه الجنود والحدود فقط، بل يحميه الوعي الاستراتيجي الذي يميّز بين الصديق والعدو، وبين الدبلوماسية والحرب بأدوات أخرى.
المؤسسات الأردنية قادرة بلا شك على المراقبة والمواجهة، ولكن هذا يتطلب أولاً الاعتراف بأن ساحة المعركة قد انتقلت إلى مجالسنا الخاصة، وأن سلاح العدو قد يكون ابتسامة ودية أو حديثاً عابراً عن هموم الحياة.
في النهاية، السيادة ليست شعاراً نرفعه، بل هي ممارسة يومية تقوم على الريبة الواعية والحذر الاستراتيجي , فالدولة التي لا تعرف حدوداً لتحركات السفراء، هي دولة تسمح للآخرين بكتابة سيناريوهات مصيرها.
والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة : هل لا نزال نتحكم بحدودنا، أم أننا أصبحنا ساحة مفتوحة لاستخبارات العالم، تحت ستار الدبلوماسية والمجاملة؟ الجواب سيكتبه مدى قدرة الوعي الجمعي على التمييز بين ضيف يحترم البيت، وبين من يبحث عن مفاتيح خزائنه.












































