المشاريع الوطنية الاستراتيجية في الأردن

يقف الأردن اليوم على مفترق طرق تاريخي؛ فبعد عقودٍ من إدارة الأزمات المتكررة، بات من الضروري الانتقال إلى مرحلة المشاريع الوطنية الاستراتيجية التي تُعيد تشكيل الاقتصاد على أسس أكثر استدامة وكفاءة وتنافسية. في بلدٍ يستورد أكثر من 93% من احتياجاته من الطاقة، ويُصنّف ضمن أكثر الدول فقرًا مائيًا عالميًا بمتوسط يقل عن 100 متر مكعّب للفرد سنويًا مقابل خط الفقر المائي البالغ 500 متر مكعّب، لم يعد التباطؤ خيارًا. السبيل الوحيد هو الاستثمار الجاد في مشاريع كبرى تحمل طابعًا وطنيًا وأفقًا استراتيجيًا.

يُعد مشروع الناقل الوطني للمياه حجر الزاوية في مستقبل الأردن، إذ يقوم على تحلية مياه البحر الأحمر في العقبة وضخها إلى عمّان وبقية المدن. المشروع الذي يُتوقع أن تصل كلفته إلى نحو 2.5 مليار دولار سيزوّد المملكة بما يقارب 300 مليون متر مكعب سنويًا. نجاحه يعني تجاوز أزمة العطش، وتأمين الاستقرار المائي لقطاعات الزراعة والصناعة والخدمات.

ومع بلوغ فاتورة الطاقة المستوردة ما يقارب 10% من الناتج المحلي الإجمالي، يصبح الاستثمار في الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين الأخضر ضرورة استراتيجية. الأردن يتمتع بـ 320 يومًا مشمسًا في السنة، ما يمنحه ميزة تنافسية لإنتاج وتصدير الهيدروجين الأخضر إلى أوروبا وآسيا. هذا المشروع قادر على خفض الاستيراد، وتوليد آلاف فرص العمل في قطاعات حديثة عالية التقنية.

المدينة الجديدة الذكية المزمعة بين عمّان والزرقاء ليست مشروعًا عمرانيًا فحسب، بل فرصة لإعادة هندسة الاقتصاد الحضري. من خلال تخطيط حديث يعتمد على الذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة، يمكن أن تستقطب استثمارات بمليارات الدولارات، وتوفّر بيئة عصرية للسكن والعمل، وتخفّف الضغط عن عمّان التي تستوعب حاليًا أكثر من 42% من سكان المملكة.

وبالنسبة الى النقل واللوجستيات، فإن إنشاء شبكة سكة حديد تربط مناجم الفوسفات والبوتاس بميناء العقبة يعزز موقع الأردن كبوابة إقليمية. هذا المشروع سيخفض تكاليف النقل بنسبة قد تصل إلى 30%، ويدعم خطة الأردن للتحول إلى مركز لوجستي في المشرق العربي، مستفيدًا من موقعه الاستراتيجي الرابط بين الخليج وبلاد الشام.

وعلى مستوى السياحة المستدامة، يمتلك الأردن أكثر من 100 ألف موقع أثري وتاريخي، من البترا إلى البحر الميت ووادي رم، إضافة إلى السياحة العلاجية التي تستقطب عشرات الآلاف سنويًا. الاستثمار في هذا القطاع ضمن إطار مستدام يرفع الإيرادات السياحية التي تجاوزت 7.4 مليار دولار في 2023، ويخلق وظائف مباشرة وغير مباشرة للشباب.

كما أن الإسراع في التحوّل الرقمي والاقتصاد المعرفي من خلال إنشاء بنية تحتية رقمية متطورة ومراكز بيانات إقليمية يمكن أن يضع الأردن في قلب الاقتصاد الرقمي العالمي. تشير التقديرات إلى أن قطاع تكنولوجيا المعلومات يساهم بأكثر من 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مرشح للتوسع بشكل أكبر إذا ما تم دمجه بالذكاء الاصطناعي والحكومة الإلكترونية.

وفي مجال الزراعة الذكية والأمن الغذائي، تُظهر أرقام الاستيراد أن الأردن ينفق أكثر من 3 مليارات دولار سنويًا على استيراد الغذاء. الاستثمار في الزراعة المحمية وأنظمة الري الحديثة سيقلّص هذه الفاتورة، ويوفر فرص عمل جديدة، ويعزز استقرار الريف ويحدّ من الهجرة إلى المدن.

ولا بد الى الاهتمام في الاقتصاد الدائري وإدارة النفايات، حيث ينتج الأردن نحو 3 ملايين طن من النفايات سنويًا، يمكن أن تتحول إلى مصدر طاقة أو مواد أولية. عبر إنشاء مصانع تدوير ومحطات تحويل النفايات إلى كهرباء، يمكن خلق فرص استثمارية جديدة وتقليل الاعتماد على الاستيراد في قطاع الطاقة.

الإطار المؤسسي والتمويلي نجاح هذه المشاريع يحتاج إلى شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص، وآليات تمويل مبتكرة عبر صناديق المناخ والتنمية، إضافة إلى جهاز وطني متخصص يتابع التنفيذ، ويقيس الأداء بمؤشرات دقيقة مثل عدد الوظائف المستحدثة أو نسبة خفض الاستيراد.

هذه المشاريع ليست مجرد أحلام على الورق، بل هي خطة إنقاذ اقتصادي تضمن تحوّل الأردن من اقتصاد هشّ إلى اقتصاد مرن قائم على الماء والطاقة والابتكار. إن امتلاك الإرادة السياسية والتخطيط العلمي قادران على تحويل الأردن إلى نموذج في الصمود والاستدامة في منطقة تعصف بها التحديات. إنها فرصة تاريخية لن تتكرر؛ إمّا أن نغتنمها، أو نبقى أسرى الأزمات المتراكمة.