اخبار اليمن
موقع كل يوم -الثورة نت
نشر بتاريخ: ٥ حزيران ٢٠٢٥
الثورة /متابعات
في أرض باتت تتنفس الرماد ويكاد الغبار أن يغطي معالم الحياة، تختبئ ملامح جيلٍ لم يعرف من الطفولة سوى الدمار والفقد.
خلف الأرقام المتناثرة في تقارير المنظمات، يعيش عشرات الآلاف من الأطفال الأيتام في قطاع غزة، وقد خُطّت على جباههم ملامح مأساة مستمرة، عنوانها: الموت، والتشرد، والخذلان.
في قلب الكارثة، يقف أكثر من 40 ألف يتيم أمام مصير معتم، بعد أن مزقت آلة الحرب الإسرائيلية نسيجهم العائلي، وسلبتهم حضن الأم، وسند الأب، وحتى الحد الأدنى من مقومات البقاء.
ما يعيشه أيتام غزة اليوم لا يمكن اختزاله في تقارير إحصائية؛ فكل وجه منهم رواية كاملة عن معاناة إنسانية بحجم جريمة ضد جيل بأكمله.
فقد مضاعف… ونظام متهاوٍ
منذ اندلاع عدوان أكتوبر 2023، ارتفع عدد الأيتام من 22 ألفًا إلى نحو 40 ألفًا، بينهم 700 طفل فقدوا أسرهم بالكامل، وأصبحوا في خانة “الناجين الوحيدين”.
هذه الأرقام، التي لا تحمل سوى جزء من الحقيقة الموجعة، تعكس انفجارًا في المأساة الاجتماعية، وانهيارًا تامًا للبنية الحامية للأطفال.
ويأتي هذا النزيف في ظل غياب شبه تام للرعاية الحكومية، وعجز المؤسسات الاجتماعية، وتردي الوضع الإنساني على نحو غير مسبوق.
حتى مؤسسات الإيواء التي كانت الملاذ الأخير، أصبحت الآن عاجزة عن توفير أبسط الاحتياجات لأطفال باتوا فريسة الجوع والبرد والكوابيس الليلية.
شهادات من رماد الألم
تقول الطفلة “مريم” من خان يونس، وقد فقدت والديها تحت الأنقاض: “ما كنت أعرف شو صار، فجأة سقط السقف عليّ، كنت لحالي… ما حدا كان معي، وأنا كتير خايفة، كل يوم بشوف الكوابيس، نفسي أرجع أعيش زي باقي البنات”.
فيما تصف السيدة “نادية”، وهي أم لأربعة أيتام، حالها بالقول: “نعيش في خيمة من قماش، ننتظر الماء والطعام، ونخاف من كل شيء، حتى من النوم، بنتي الصغيرة تبيع البسكويت في الشارع، هذا كل ما نملكه”.
هذه القصص، التي تتكرر بنسخ مختلفة في كل ركن من أركان غزة، ليست سوى انعكاس مرعب لتآكل منظومة الطفولة، وتحول حياة الأيتام إلى رحلة شقاء مفتوحة على المجهول.
الطفولة في العناية المركزة
لا تقتصر المأساة على الفقد المادي، بل تمتد إلى ما هو أخطر: الانهيار النفسي. بحسب منظمة Save the Children، يعاني أكثر من 90% من أيتام غزة من اضطرابات نفسية حادة، تتراوح بين الصمت المطلق، التبول اللاإرادي، نوبات الهلع.
وتروي المرشدة النفسية “مي خالد”: “نعالج أطفالًا لا يعرفون كيف يضحكون، أو حتى كيف يحلمون. أحدهم قال لي: تمنيت أن أكون أنا الميت، لا أمي”.
إنها ليست مجرد أزمة، بل كارثة متكاملة الأركان، تهدد بتحويل جيل كامل إلى ضحايا دائمين للحرب، ليس فقط في الجسد، بل في الذاكرة والهوية والوجدان.
غياب دولي وخيانة قانونية
أوضاع أيتام غزة تُمثّل خرقًا فاضحًا لاتفاقية حقوق الطفل لعام 1989، والتي تكفل حق الطفل في الحياة، والرعاية، والحماية من النزاعات المسلحة.
غير أن الواقع يشي بعكس ذلك تمامًا؛ إذ تقف المؤسسات الدولية متفرجة على جريمة متواصلة ترتقي إلى مصاف جرائم الحرب، من خلال استهداف عائلات بأكملها، وترك الأطفال يواجهون الجوع والمرض والعزلة دون حماية.
وقد وثّق مركز الميزان لحقوق الإنسان عمليات إبادة طالت 2,172 عائلة فلسطينية بالكامل، ما أدى إلى بروز ظاهرة “أيتام المجازر” الذين لا يربطهم بأحد أي صلة قرابة أو سند اجتماعي.
مؤسسات عاجزة وضغوط متفجرة
تكافح مؤسسة “قرية الوفاء لرعاية الأيتام” في منطقة المواصي جنوب القطاع، لإيواء نحو 300 طفل، بينهم من لا يملك هوية أو نسب معروف. لكن حجم الضغط، وانعدام الموارد، وتزايد النازحين، بات يهدد بانهيار ما تبقى من قدرة على الرعاية، حسبما أكدت مديرة المؤسسة وفاء أبو جلالة.
وتقول: “لا نستطيع مجاراة الأعداد المتزايدة، الأطفال بحاجة إلى رعاية دائمة، وليس مجرد سقف وخبز ناشف، إنهم في خطر حقيقي”.
مطلوب إنقاذ طارئ… لا بيانات شجب
الأيتام لا ينتظرون خطابًا في مجلس الأمن، ولا وعدًا في مؤتمر دولي، بل أفعالًا ملموسة.
من الضروري، وفق خبراء، إنشاء صندوق طوارئ دولي لتأمين الغذاء والدواء والمأوى، وإرسال بعثات طبية ونفسية فورية، بالإضافة إلى إطلاق قاعدة بيانات وطنية لحماية هوية الأطفال وحفظ حقوقهم القانونية.
ويطالب حقوقيون المجتمع الدولي بفتح تحقيقات دولية مستقلة لمحاسبة مرتكبي جرائم استهداف المدنيين، وضمان حماية الأيتام من التجنيد والاستغلال.
الحديث عن أطفال غزة ليس عاطفة، بل مسؤولية، كل طفل يتيم هناك هو صرخة في وجه الصمت، وطعنة في قلب العدالة الدولية. أمام هذه المأساة، لا خيار إلا الاستفاقة… قبل أن تُمحى آخر ملامح الطفولة من على وجه هذه الأرض المحاصرة.