جاء تقرير هآرتس الأخير ليشكّل مثالاً واضحاً على الطريقة التي تعيد بها المؤسسة الإسرائيلية إنتاج روايتها حول مستقبل غزة ، في لحظة تتقاطع فيها التسريبات الأميركية والإقليمية لتكشف خططاً أعمق بكثير مما يُكتب في الصحافة الإسرائيلية. فرغم أن التقرير يتعامل مع التطورات وكأن إسرائيل تواجه غموضاً أميركياً وارتباكاً في الرؤية، إلا أن ما تسرب خلال الأسابيع الماضية حول خطة ترامب، وتقسيم غزة إلى 'قديمة' و'جديدة'، وتحديد مناطق إعادة الإعمار شرق الخط الأصفر، وهي المنطقة التي يحتلها الجيش الإسرائيلي، يجعل هذا الخطاب أقرب إلى محاولة للتعتيم منه إلى قراءة واقعية للمشهد.

ورغم أن هآرتس عادة ما تكشف تناقضات المستوى السياسي والأمني في إسرائيل، إلا أن التقرير هذه المرة سار باتجاه تسويق رواية مترددة تزعم أن الإدارة الأميركية تتصرف دون رؤية متماسكة، وأن خططها تُفرض على إسرائيل من دون تنسيق أو وضوح. لكن الوثائق والتسريبات الأميركية لا تعكس ارتباكاً بقدر ما تكشف عن خطة جاهزة جرى تصميمها على مرحلتين: إعادة الإعمار وبناء 'غزة الجديدة' كغطاء لتحول سياسي، ثم الانتقال إلى نزع السلاح وبناء حكومة انتقالية من خلال 'هيئة الاستقرار' و'مجلس السلام' برئاسة ترامب. وهذه التفاصيل ليست شائعات، بل محاور وردت في أكثر من تسريب رسمي وشبه رسمي، بينما تواصل الصحافة الإسرائيلية تجاهلها لأنها تمس جوهر الهيمنة الإسرائيلية على القطاع.

وما يلفت أكثر هو أن التسريبات الأميركية قدمت تصوراً يبدو في ظاهره تكنوقراطياً، لكنه في حقيقته يرسم خريطة سياسية جديدة لمرحلة ما بعد الحرب، ربما تشمل تقسيم غزة مؤقتاً، وإخضاع مناطق معينة لإشراف أمني واقتصادي دولي تمهيداً لإعادة هيكلتها. ومع ذلك، تتجاهل تلك التسريبات، كما يتجاهل تقرير هآرتس، الدور العربي والإسلامي، وخاصة الدور المركزي لمصر التي تعمل بصورة حثيثة لضمان استمرار تنفيذ الاتفاق والعبور نحو المرحلة الثانية، ودور تركيا التي ظهرت خلال الأسابيع الأخيرة كفاعل سياسي واقتصادي قادر على التأثير في مسار الإعمار والضمانات السياسية.

غياب ذكر مصر وتركيا في التسريبات ليس عرضياً، بل يعكس رؤية أميركية تريد أن تبقى إدارة غزة ضمن إطار دولي أميركي مباشر، مع تحييد القوى الإقليمية التي تمتلك نفوذاً فعلياً على الأرض وعلى أطراف الاتفاق. وهذا الغياب نفسه تكرره هآرتس، التي تقدم صورة وكأن إسرائيل وواشنطن وحدهما اللاعبان الأساسيان، بينما الواقع يشي بأن القاهرة وأنقرة أصبحتا تتقدمان في بعض الملفات على حساب الطرفين.

أما السردية التي يكررها المقال حول أن ' حماس لن تلتزم بالاتفاق'، فهي امتداد لخطاب إسرائيلي فقد مفعوله أمام الوقائع، بعدما التزمت الحركة بتسليم الأسرى الأحياء ووقف إطلاق النار وآليات المساعدات، بينما الطرف الذي أخر تنفيذ البنود هو إسرائيل التي لم تنفذ الانسحاب المتفق عليه وواصلت تدخلها في تدفق الوقود والمساعدات. هذا التناقض بين ما يحدث فعلياً وما تروّج له الصحافة الإسرائيلية يظهر أن وظيفة التقرير ليست تفسير المشهد، بل إعادة صياغته بطريقة تخدم بقاء الجيش الإسرائيلي في المناطق التي يفترض أن تنتقل قريباً إلى الإدارة الدولية.

وتجتهد هآرتس في تصوير 'غزة الجديدة' وكأنها مشروع هندسي مفاجئ ومبهم، بينما المشروع الأميركي وفق التسريبات ليس سوى غطاء سياسي لمرحلة انتقالية أطول تُدار فيها غزة من خلال هيئة دولية، وتُ فتح أمام شركات أميركية وتركية ومصرية، فيما إسرائيل تحاول الحفاظ على وجود عسكري ميداني أطول ما يمكن. إن ما يسميه التقرير 'ضبابية' هو في الحقيقة مقاومة إسرائيلية لواقع جديد يتشكل، ولا تملك فيه اليد العليا كما اعتادت.

وفي الخلفية، يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة لم تعد تنتظر موافقة إسرائيل على كل تفصيل، بعد أن طرحت مشروع قرار في مجلس الأمن يربط بين وقف إطلاق النار وإعادة الإعمار ونزع السلاح وصياغة حكومة انتقالية. هذا المسار الدولي لا يظهر في تقرير هآرتس إلا هامشياً، رغم أنه يمثل التحول الأكثر أهمية في تحديد من سيتحكم بمستقبل غزة. فمصر وتركيا تتحركان بفعالية، والولايات المتحدة تدفع باتجاه التنفيذ، بينما تحاول إسرائيل أن تبدو ضحية غموض أميركي، رغم أن الحقيقة أن الغموض الوحيد يكمن في موقفها هي، وليس في الخطط المطروحة.

بهذا المعنى، لا يُقرأ تقرير هآرتس كمعلومات جديدة وتحليل بقدر ما يُقرأ كجزء من محاولة إسرائيلية لالتقاط الأنفاس أمام لحظة سياسية تتجاوز قدرة المؤسسة الأمنية على احتوائها: تدويل غزة، مشاركة إقليمية فاعلة، انتقال سياسي مرتب خارج المطبخ الإسرائيلي، وتراجع دور القوة العسكرية كأداة لضبط المستقبل. ولعل السؤال الحقيقي اليوم ليس: 'لماذا تبدو واشنطن غامضة؟' بل: 'لماذا تخشى إسرائيل وضوح ما يُطرح؟'

وفي ظل ذلك، فالقلق من أن الهدوء الحالي على الأرض ليس مؤشراً على نجاح الصفقة، بل انعكاس للقدرة الفلسطينية على التأقلم مع الواقع. ومع مرور الوقت، قد يؤدي هذا الهدوء إلى فرض واقع جديد تلقائياً، خصوصاً مع إعادة إعمار مناطق مثل رفح تحت إشراف جهات محددة، وهو ما يثير مخاوف من تمرير الاتفاق بشكل جزئي أو مشوه.

أمام الفلسطينيين فرصة حقيقية لاحتواء ما يُحاك: يجب التركيز على وقف إطلاق النار وحماية حقوقهم ومصالحهم السياسية، وتحميل إسرائيل المسؤولية العملية كقوة احتلال، باعتبار قطاع غزة وسكانه منطقة محتلة تخضع فعلياً لحكم أجنبي وله تبعات قانونية وحقوقية. وقراءة اللحظة التاريخية بوعي، والعمل بشكل موحد وبوفاق وطني،

والتنسيق التام مع الدول العربية والإسلامية، وخاصة الدور المصري، والتأكيد على خطة الإعمار التي قدمتها مصر والحكومة الفلسطينية. إن الفشل في التنسيق الداخلي والعربي، أو ترك التسريبات تؤثر في الرأي العام، قد يعطي القوى الخارجية فرصة لترسيخ واقع تقسيم القطاع بشكل دائم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية