اخبار لبنان
موقع كل يوم -أخبار لبنان
نشر بتاريخ: ٣ أيار ٢٠٢٥
رياض الحسيني
تتعاطى غالبيّة القوى السّياسيّة مع الانتخابات البلديّة المقبلة، وفقًا لما يُبشّر به المسار السّياسيّ الحاليّ، المفروض والقائم على قناعةٍ بأنّ لبنان بات أمام اختبارٍ حقيقيّ لتغيير هيكليّته وتركيبته، وفق موازين قوى جديدة. وهذه الانتخابات الّتي جاءت بعد تسويفٍ وتأجيلٍ لثلاث مرّاتٍ متتالية، تتّسم ببُعدٍ استثنائيّ لم يسبق له مثيل في الانتخابات السّابقة؛ فهي اليوم، وإلى جانب حيثيّتها في السياق الديمقراطيّ، باتت أيضًا بمثابة مؤشّرٍ مبكّرٍ على المناخ السّياسيّ الذي قد يسود في الانتخابات النيابيّة المقبلة وسط تحوّلاتٍ جذريّة وطارئة في المشهد اللبنانيّ.
اختبارٌ سياسيّ استثنائيّ
انتخابات بلديّة بيروت، على وجه الخصوص، قد تكون المرآة الأكثر وضوحًا لملامح المعركة السياسيّة المقبلة. ففي ظلّ حالة اللااستقرار السياسيّ والاقتصاديّ التي تُخيّم على لبنان منذ سنوات، تتحرّك الأحزاب التقليديّة في العاصمة على قاعدة ضرورة التحالف، ولو كان ظرفيًّا وهشًّا، بين قوى مختلفة التوجّهات، في محاولةٍ لتأمين موقعٍ في المجلس البلديّ المرتقب، مع التوجّه لتشكيل لائحةٍ مكتملة واحدة، تضمّ مُرشّحي مختلف الأحزاب السياسيّة التقليديّة المتوالفة منها والمتناحرة في آنٍ معًا، وفق ما تؤكّد مصادر 'المدن'. هذه اللائحة الّتي أرادت من خلالها الأحزاب تجاوز الحساسيّات السياسيّة وحساباتها، من أجل ضمان تمثيلها في الانتخابات في سياقها المحلّيّ.
وإزاء هذه الاستراتيجيّة التي تحاول من خلالها الأحزاب التقليديّة ضمان مواقعها بذريعة 'المناصفة' في بلديّة العاصمة بيروت، يبرز الحراك المدنيّ في سياقه الانتخابيّ ليتصدّى لمحاولات 'المحاصصة'، وضمان وصول مُرشّحين من خارج الإطار والتركيبة القديمة.
تحالفات متناقضة
تُشير المصادر إلى أنّ ما تسعى إليه مختلف القوى السياسيّة حاليًّا، هو تحضير لائحةٍ مكتملة في بيروت، بعدما بات من شبه المستحيل فرض قانونٍ انتخابيّ جديد، ناهيك عن مقترحات تتعلق باللائحة المقفلة التي تحول دون تشطيب الأسماء. وعليه، جرت لقاءاتٌ مباشرة بين غالبيّة الأحزاب من 'القوّات اللبنانيّة' و'الطاشناق' و'الكتائب'، مرورًا بشخصيّات من 'التيّار الوطنيّ الحرّ' التي لا تدين بالولاء لرئيسه جبران باسيل، وصولًا إلى جمعيّة 'المشاريع' (الأحباش) والثنائيّ الشيعيّ وشخصيّاتٍ سياسيّة وماليّة بارزة مثل فؤاد المخزومي وبعض النوّاب التغييريّين في بيروت، لتشكيل هذه اللائحة. وهذا التحالف الذي يلوح في الأفق من خلال لقاءاتٍ مكثّفة تجمع خُصوم الأمس وحلفاء اليوم، يكشف عن عُمق الأزمة التي تمرّ بها القوى السياسيّة التقليديّة في لبنان؛ ويشي برغبةٍ عميقة في الحفاظ على الحضور في وجه حالة التغيير التي تعصف بالساحة اللبنانيّة.
غير أنّ أبرز ما يُعكّر صفو هذه الصورة التوافقيّة الظاهرة هو موقف رئيس 'تيّار المستقبل'، سعد الحريري، الذي أعلن انسحابه الكامل من الانتخابات البلديّة في بيروت، مستندًا في ذلك إلى قناعةٍ راسخة بأنّ الانتخابات البلديّة يجب أن تبقى بعيدةً عن 'التسييس' والصراعات الطائفيّة. وجاء بيان الحريري حاسمًا في تحميل المسؤوليّة للقوى السياسيّة التقليديّة التي اعتمدت سابقًا على تيّار المستقبل لقيادة تحالفاتها، ثمّ تخلّت عنه في اليوم التالي للانتخابات لتتحوّل إلى 'متاريس سياسيّة' في المجلس البلديّ، وفق تعبير الحريري.
يُقرأ موقف الحريري، سياسيًّا، كخطوةٍ مدروسة تهدف إلى النأي بنفسه وبتيّاره عن المسؤوليّة المباشرة لما قد ينجم عن انتخابات بيروت المقبلة من احتقانٍ سياسيّ وطائفيّ، في ظلّ مخاوف من تعمّق الانقسام داخل مجلس بلديّة بيروت في ظلّ اللائحة 'الهجينة' التي يجري الإعداد لها. كما يكشف هذا الانسحاب عن عمق الأزمة داخل البيت السياسيّ التقليديّ السنّيّ، ويترك المجال مفتوحًا على مصراعيه للتساؤل عن الجهة التي ستملأ هذا الفراغ السياسيّ الحيويّ في العاصمة.
المجتمع المدنيّ أمام فرصة التغيير
في مقابل هذا الواقع، يرتفع صوت الحراك المدنيّ، مُمثَّلًا بقوى التغيير ومجموعاته الشبابيّة والمدنيّة، التي تتّجه إلى تشكيل لائحةٍ مكتملة منافسة. هذا التحالف المدنيّ، وفق ما أكّده النائب إبراهيم منيمنة لـ'المدن'، يهدف إلى تقديم لائحةٍ متجانسةٍ تُعبّر عن تطلّعات أبناء بيروت وتضمّ كفاءاتٍ متنوّعةً ومتعدّدةَ الخلفيّات، بهدف انتزاع القرار البلديّ من منطق المحاصصة والاصطفاف الطائفيّ والسياسيّ، ووضعه في إطارٍ تنمويّ بحت.
وهنا تبرز أهمّيّة هذا التوجّه المدنيّ في ضوء تراجع ثقة المواطن اللبنانيّ في قدرة القوى التقليديّة على إحداث أيّ تغييرٍ حقيقيّ. فبيروت التي تعاني من أزماتٍ عمرانيّةٍ واقتصاديّةٍ وبيئيّةٍ واجتماعيّةٍ حادّة، تبدو في أمسّ الحاجة إلى رؤيةٍ سياسيّةٍ جديدةٍ تُخرجها من دائرة التجاذب السياسيّ والصراع الطائفيّ، بما يعيد إليها موقعها كعاصمةٍ لكلّ اللبنانيّين.
بيروت: بين التغيير والتقليد السّياسيّ
أمام هذا المشهد، يصبح من الواضح أنّ الانتخابات البلديّة المقبلة ليست مجرّد محطّةٍ انتخابيّةٍ محلّيّةٍ عابرة، بل هي معركةٌ سياسيّةٌ بامتياز، تعكس بوضوحٍ حجم التوتّرات والتوازنات الجديدة في لبنان، وتُمثّل اختبارًا حقيقيًّا لقدرة القوى التقليديّة على الاستمرار، وقوى التغيير على فرض رؤيتها ومشروعها الوطنيّ البديل.
بيروت اليوم تقف على مفترق طرقٍ بين خيارٍ تقليديٍّ تهيمن عليه القوى السياسيّة المعتادة، وخيارٍ جديدٍ يعكس مزاجًا شعبيًّا متناميًا من التغيير. لكنّ الأكيد أنّ العاصمة التي كانت دومًا مختبرًا للتحوّلات الوطنيّة الكبرى، ستُحدّد ملامح المرحلة المقبلة في لبنان، وربّما تكون انتخابات بلديّتها نقطة البداية لولادة مشهدٍ سياسيّ جديدٍ، يعيد تشكيل التحالفات وفق قواعد ومعاييرَ مختلفةٍ تمامًا عن السابق. وعلى امتداد لبنان، تُترجَم هذه المعركة البلديّة صراعًا واسعًا على النفوذ السياسيّ والاجتماعيّ، لتصبح منصّةً أساسيّةً لولوج العمل العامّ، وتحديد حجم ودور الأحزاب والقوى السياسيّة الجديدة والقديمة على حدّ سواء، في الانتخابات النيابيّة المقبلة، والتي ستُكرّس رسميًّا نتائج هذه المواجهة غير المسبوقة.