اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٢٩ كانون الأول ٢٠٢٥
د. محمد موسى*
في خضمّ ضغط دولي غير مسبوق، وتعقيدات مالية متراكمة منذ سنوات، لا بدّ من الإقرار بأنّ الحكومة اللبنانية ورئيسها يتحرّكون اليوم انطلاقاً مما هو متاح بين أيديهم، لا مما يتمنّاه الرأي العام أو تطلبه العدالة الكاملة دفعة واحدة. فهم ليسوا صنّاع الأزمة ولا مهندسي الانهيار، بل يتعاملون مع إرث ثقيل فرضته سياسات خاطئة وبنية مالية مختلّة، ويحاولون فتح كوة في جدار الانسداد عبر مسودة قانون «الانتظام المالي واسترداد الودائع» بوصفها مدخلاً أولياً إلى مسار الحل، لا خاتمته. ويُسجَّل في هذا السياق موقف إيجابي يستحق الإشادة، يتمثّل في التشديد الواضح على الحفاظ على ذهب لبنان باعتباره خطاً أحمر وسيادة مالية لا يجوز المساس بها، إلى جانب الإعلان عن المضيّ في مسار المحاسبة وعدم الاكتفاء بإجراءات شكلية أو تسويات منقوصة، بل الذهاب بها حتى النهاية مهما كانت الكلفة السياسية. غير أنّ الإقرار بحسن النيّة وبأهمية بدء المسار لا يعفي من القول بوضوح إنّ هذه المسودة، بصيغتها الحالية، تحتاج إلى تصويب جوهري إذا أُريد لها أن تؤسّس لحلول حقيقية وعادلة ومستدامة. فأنصاف الحلول في أزمات بهذا الحجم لا تنتج استقراراً، بل تؤجّل الانفجار وتبدّد ما تبقّى من ثقة.
أولى الإشكاليات البنيوية تتمثّل في غياب الحسم الواضح لتراتب تحمّل الخسائر، إذ لا يُكرَّس بشكل صريح المبدأ المعتمد دولياً والقائم على شطب كامل لحقوق المساهمين والديون الرأسمالية المساندة قبل الانتقال إلى أي فئة أخرى، كما تنص عليه معايير بازل والتجارب المقارنة. ويُضاف إلى ذلك تركّز الصلاحيات في مصرف لبنان وهيئات تابعة تفتقر إلى الاستقلالية الكافية، مع تداخل مقلق بين أدوار الرقابة والتنفيذ، بما يولّد ازدواجية مصالح تقوّض صدقية أي مسار إصلاحي.
كما تثير المسودة مخاوف جدّية لجهة تعريض الذهب وأصول الدولة لمخاطر ائتمانية من دون تحصين قانوني صارم، ما يهدّد الاحتياطيات الاستراتيجية ويحوّلها إلى أداة لسدّ فجوات آنية بدل أن تكون ركيزة أمان وطني. ويأتي ذلك مترافقاً مع آلية تعويض للمودعين مؤجّلة، تفتقر إلى الحد الأدنى من الشروط السوقية، من دون عوائد مجدية، ومن دون تعيين وصيّ مستقل يضمن الإدارة الرشيدة والشفافية، الأمر الذي يفقد هذه الأدوات ثقتها وقابليتها للتداول. إلى ذلك، تقوم المسودة على افتراضات تمويل نقدي واسع من دون ضوابط واضحة للتعقيم أو سقوف زمنية وكمّية، ما يفتح الباب أمام مخاوف تضخمية ويضعف مصداقية أي التزام مالي طويل الأمد. كما أنّ الصياغات الفضفاضة المتعلّقة بالغرامات واسترداد الأرباح غير المشروعة قد لا تصمد أمام الطعون القضائية، بما ينعكس سلباً على الصلابة الائتمانية للدولة وعلى ثقة الداخل والخارج معاً.
وعلى المستوى الأعمق، يبرز نقص فادح في العناصر المادية المكملة لأي خطة تعافٍ جدّية، وفي مقدّمها غياب آليات فعّالة لمكافحة الفساد واسترداد الأصول المهرّبة عبر الأطر القانونية الدولية، وافتقار النص إلى ضمانات بنيوية تمنع تكرار الأزمة، مثل ضبط الإقراض المرتبط بالسياسيين وأصحاب النفوذ، وهي مسألة لطالما شدّدت عليها تقارير البنك الدولي الحديثة حول لبنان. كما يغيب التزام صريح بإجراء تقييم مستقل وشامل للخسائر قبل أي توزيع، تفادياً لتكرار تجارب فاشلة أثبتت أن ترحيل الخسائر لا يلغيها بل يفاقم كلفتها.
من هنا، فإنّ تصويب القانون يقتضي الاعتراف الكامل بالخسائر أولاً، ثم توزيعها وفق تراتبية عادلة تبدأ بشطب حقوق المساهمين والديون الرأسمالية المساندة، تليها الديون غير المضمونة، مع حماية فعلية لصغار المودعين ضمن سقف واضح، لا بوعد سياسي بل بضمانات قانونية ومالية صلبة. كما يفرض المنطق الاقتصادي إنشاء هيئة مستقلة تماماً عن السلطة النقدية والتنفيذية، تتولى تحديد الخسائر وتوزيعها ضمن مهل ملزمة، وتخضع لرقابة قضائية محدودة السبب والمدة، بما يوازن بين سرعة التنفيذ وحماية الحقوق.
كذلك، لا بدّ من تحصين ذهب مصرف لبنان والاحتياطيات الإلزامية بنصوص قاطعة تمنع رهنها أو التصرّف بها، وحصر أي ضمانات محتملة بأصول غير استراتيجية، معلنة ومدقّقة دورياً. أما أدوات التعويض، فيجب أن تُصمَّم بشروط سوقية حقيقية، تتضمن عوائد منذ السنة الأولى، وإدارة عبر وصيّ مستقل، وإفصاحاً كاملاً وسجلّاً واضحاً للتداول. ويُستكمل ذلك بإلزام المصارف، بعد إعادة رسملتها الفعلية، بالمساهمة بجزء محدد من أرباحها المستقبلية، ضمن خطة محكمة لاسترداد الأرباح غير المشروعة والتحويلات الكبيرة، تحت مظلّة قانونية لا لبس فيها.
في المحصّلة، تبقى الحكومة، مهما بلغت حدود قدرتها، طرفاً في إطلاق المسار لا في حسمه. أما الكلمة الفصل فتقع على عاتق المجلس النيابي، الذي يُفترض به أن يكون ساحة التصويب العلمي والمهني لهذا القانون، لا منبر المزايدات الشعبوية على أبواب الانتخابات. فالمطلوب نقاش هادئ، متخصص، ومسؤول، يضع نصب عينيه هدفاً واحداً: إحقاق الحق، وحماية ما تبقّى من مقوّمات الدولة، ووضع لبنان على سكة تعافٍ حقيقي لا وهمي.
* أكاديمي وباحث











































































