اخبار فلسطين
موقع كل يوم -دنيا الوطن
نشر بتاريخ: ٢٩ كانون الأول ٢٠٢٥
تابعنا أيضا عبر تويتر @alwatanvoice غزة - دنيا الوطن
لم تكن الحرب التي تعرّض لها قطاع غزة تدميرًا واسعًا للبنية التحتية والمباني والمنشآت فحسب، بل شكّلت في جوهرها الأخطر عملية إقصاء ممنهجة للإنسان المنتج، وضربة قاصمة للنخبة المهنية التي راكمت خبراتها على مدار سنوات طويلة، وأسهمت في إبقاء المجتمع واقفًا على قدميه رغم الحصار والانقسام وغياب الاستقرار.
في الوقت الذي انشغل فيه العالم بعدّ الأبراج المدمّرة، ظلّ العدّ الحقيقي مؤجّلًا: عدد الكفاءات التي أُقصيت قسرًا عن سوق العمل، وحجم الخبرات التي تحوّلت من قوة بناء إلى عبء وجودي على أصحابها. مهندسون، أطباء، أكاديميون، وتقنيون، وجدوا أنفسهم فجأة بلا مؤسسات، وبلا مشاريع، وبلا أي سياسة تحميهم من الانزلاق نحو الفقر.
محمد مصطفى حمد، مهندس معماري ومصمم داخلي من مخيم البريج وسط قطاع غزة، يمثّل واحدة من هذه القصص الثقيلة؛ قصة لا تختصر مأساة فرد، بقدر ما تكشف انهيار منظومة كاملة كانت تشكّل العمود الفقري للحياة المدنية في القطاع.
مهندس صنع ملامح مدينة
راكم المهندس محمد مصطفى حمد، على مدار سنوات طويلة، كفاءة عالية وخبرة متخصصة في مجال كسوة المباني الخارجية باستخدام الخامات الحديثة، مثل الواجهات الزجاجية، والكمبوزيت، وكاسرات الشمس. وهي مجالات دقيقة أسهمت في نقل العمارة الغزية من نمطها الوظيفي البسيط إلى أفق أكثر حداثة، تفاعلًا مع البيئة والمناخ والذائقة العامة.
ومن خلال عمله في التصميم والتنفيذ والإشراف، ترك بصمات واضحة في المشهد العمراني لقطاع غزة، تجسّدت في عدد كبير من المباني والمعالم التي أصبحت جزءًا من ذاكرة المدينة، من أبرزها: مستشفى حمد للأطراف الصناعية، غرفة تجارة شمال غزة، برج وطن، برج الطباع، برج مشتهى، برج هارموني، برج النجمة، هايبر مول، بانوراما مول، مول العرب، ومعرض صالوني للسيراميك، إلى جانب مؤسسات تعليمية وصحية، مثل جامعة الإسراء، جامعة فلسطين، جامعة الأزهر – المغراقة، مبنى الحاضنة في الكلية الجامعية، مدرسة دار السلام الخاصة، ومستشفى الهلال في خان يونس.
ويقول محمد لـ'دنيا الوطن': 'هذه المشاريع لم تكن حجارة فقط، بل حياة كاملة..ورش، عمّال، مهندسون، وموردون. كنا نخلق دورة عمل في مدينة محاصرة، نحاول أن نُبقيها حيّة.'
من القطاع الخاص إلى العام.. ومن الحداثة إلى صون الذاكرة
لم يقتصر حضور محمد مصطفى حمد على المشاريع التجارية والخاصة، بل كان له دور بارز في اعتماد النمط المعماري الحديث الذي انتهجته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا في تصميم مدارسها، عبر تنفيذ كاسرات الشمس المصنوعة من الألمنيوم، بما يراعي الاعتبارات البيئية والوظيفية والجمالية في آن واحد.
كما عمل مستشارًا لعدد من شركات القطاع الخاص العاملة في هذا المجال، مساهمًا في نقل الخبرة ورفع المعايير المهنية في سوق يعاني أصلًا من شحّ التخصصات الدقيقة.
وبالتوازي، شارك ضمن فرق متخصصة في الحفاظ على المباني التاريخية وإعادة ترميمها، من بينها سوق القيسرية وقبة دار السعادة قبل الحرب، في محاولة لحماية الذاكرة العمرانية لغزة من الاندثار.
ويضيف:'كنت أؤمن أن المدينة التي تفقد ذاكرتها تفقد مستقبلها.. لذلك اشتغلت على التراث كما اشتغلت على الحداثة.'
الحرب: حين تتحول الخبرة إلى شاهد على الجريمة
مع اندلاع الحرب، لم يتخلَّ محمد عن دوره المهني والإنساني، رغم انهيار كل شروط العمل. انخرط في توثيق الأضرار التي لحقت بالمباني التاريخية عبر التصوير الميداني وإعداد المخططات، موثقًا ما تعرّض له المسجد العمري الكبير وعدد من بيوت ومباني البلدة القديمة.
ويقول:'كنت أوثّق وأنا أعرف أن إعادة البناء قد لا تكون قريبة، لكن ترك المكان بلا شهادة كان خيانة للمهنة وللمدينة.'
خبرة في قلب مراكز الإيواء
لم يتوقف حضوره عند التوثيق، بل امتد خلال الحرب إلى العمل الإنساني الميداني، حين التحق بمركز صيانة النصيرات التابع للأونروا، وعمل مراقبًا لأعمال الصيانة في مراكز الإيواء داخل مخيمي النصيرات والبريج، في واحدة من أكثر الفترات قسوة واكتظاظًا وانهيارًا للخدمات.
كان هذا الدور محاولة للحفاظ على الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، عبر متابعة الصيانة الطارئة وتأمين متطلبات السلامة والخدمات الأساسية للنازحين.
وحتى بعد انتهاء عقده الرسمي، واصل بمبادرة شخصية أداء دور حلقة الوصل بين مراكز الإيواء ومركز الصيانة، مسهمًا في تسهيل توفير الخدمات اللوجستية في ظل فوضى إدارية ونقص حاد في الموارد.
ويعلّق:'كنت أعرف أن تأخير إصلاح باب أو دورة مياه أو خزان قد يتحول إلى كارثة على مئات العائلات.'
مشروع وُلد ميتًا
إلى جانب خبرته، أصرّ محمد على تطوير ذاته، وشارك في معارض وورش تدريبية في تركيا، ثم عاد ليؤسس مشروعه الخاص: مجموعة فكرة للاستشارات وتنفيذ الكسوات الخارجية والداخلية.
كان من المقرر وصول أول حاوية مواد في منتصف أكتوبر.
لكن الحرب كانت أسرع، أُتلفت الحاوية، وانتهى المشروع قبل أن يبدأ.
يقول بمرارة:'لم تُدمَّر الحاوية فقط، دُمّرت الفكرة، ودُمّرت الثقة بأن التخطيط ممكن في هذه البلاد.'
حين تُترك الكفاءة بلا حماية
اليوم، يجد محمد مصطفى حمد نفسه خارج سوق العمل بالكامل، كما مئات من أبناء النخبة المهنية في غزة. لا مشاريع، لا إعمار، ولا أي سياسة واضحة لاستيعاب الكفاءات.
لم يعد السؤال عن التخصص، بل عن القدرة على البقاء. يبحث عن أي فرصة عمل، حتى في وظائف لم يكن يتخيّلها يومًا، فقط لتأمين لقمة العيش.
ويقول: 'لا أعيب أي عمل شريف، لكن العيب أن تُهدر سنوات من العلم والخبرة، وأن يُترك المهندس والطبيب والأستاذ كأنهم فائض بشري.'
ما بعد القصة
قصة محمد مصطفى حمد ليست حالة فردية، بل اتهام بنيوي لواقع يفتقر إلى رؤية وطنية لحماية الإنسان المنتج، ويترك النخبة المهنية تواجه مصيرها وحدها.
غزة التي تخسر مهندسيها وأطبائها وخبراءها لا تخسر أفرادًا فقط، بل تخسر قدرتها على النهوض حين تتوفر الإمكانيات.
فالحجر يمكن إعادة بنائه،أما الإنسان حين يُكسَر..فترميمه أصعب، وربما مستحيل.
في غزة، لا يموت الحلم دفعة واحدة، بل يُنهك، ويُهمَّش، ثم يُدفع صاحبه إلى طابور البحث عن لقمة العيش.

























































