اخبار لبنان
موقع كل يوم -النشرة
نشر بتاريخ: ٢٥ كانون الأول ٢٠٢٥
اشار متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عودة خلال ترؤسه خدمة قداس الميلاد في كاتدرائية القديس جاورجيوس، الى 'اننا نقف اليوم امام ميلاد مخلص العالم، لا كحدث تاريخي مضى، ولا كذكرى نزين لها الشوارع والمنازل، بل كحقيقة خلاصية حية تهز كيان الانسان وتدعوه الى مراجعة ذاته وحياته وموقعه في هذا العالم. ميلاد المخلص هو اعلان الله الحاسم انه لم يترك الانسان فريسة للظلمة والخطيئة والموت، بل دخل بنفسه تاريخنا، ولبس جسدنا، واختبر ضعفنا وخوفنا، ليقيمنا معه في نور الحياة. نعم، الكلمة صار جسدا وحل بيننا، ورأينا مجده، مجدا كما لوحيد من الاب، مملوءا نعمة وحقا (يو 1 : 14)'.
ولفت الى ان 'في ميلاد المسيح نشهد انقلابا جذريا في منطق هذا العالم الذي يبني المجد على القوة، والعظمة على التسلط، والنجاح على اقصاء الاخر وتحطيمه. الله اختار طريقا مغايرا. اختار ان ياتي طفلا ضعيفا، لا يملك شيئا، مولودا في مغارة، موضوعا في مذود، محاطا برعاة وغرباء، لا بملوك وجيوش. وكان الله اراد منذ اللحظة الاولى ان يعلن ان الخلاص لا يبنى على القهر او يفرض بالقوة، بل يعطى بالمحبة والاتضاع. يقول القديس اسحق السرياني: حيث الاتضاع، هناك يحل الله. هذا الاتضاع الالهي ليس تفصيلا ثانويا في ايماننا، بل هو قلب الانجيل. المسيح لم يتضع فقط في ميلاده، بل جعل التواضع نهج حياته كلها، حتى الصليب. فمن المذود الى الجلجلة، نرى الها يخدم الانسان عوض ان يطالبه بخدمته، ويبذل ذاته عوض ان يطلب ذبيحة. لذلك يقول الرب: من اراد ان يكون فيكم عظيما، فليكن لكم خادما (متى 20: 26). الميلاد مدرسة جديدة للانسان، تعلمه كيف يكون عظيما بالمحبة، قويا بالتواضع، غنيا بالرحمة والعطاء، صانع سلام'.
واوضح ان 'هذا السر العظيم يساء فهمه حين يتحول العيد الى مجرد تقليد اجتماعي او موسم استهلاكي. هذا ما يحصل في العالم وفي معظم المدن والشوارع اللبنانية، حيث يتنافس الجميع على اقامة اكبر او اجمل او اغرب شجرة يسمونها شجرة الميلاد لكنها لا تمت الى معنى الميلاد بصلة. قد تكون وسيلة لادخال بعض البهجة الى القلوب او انعاش الاقتصاد، لكن الميلاد ليس زينة ولا موائد، بل دعوة الى ولادة جديدة. هل نعي معنى ولادة الطفل الالهي في عالمنا؟ وهل نسمح للمسيح بان يولد في قلوبنا؟ هل تغير فينا شيء من خلال هذا السر؟ ام نكتفي بالمظاهر الزائلة فيما قلوبنا مغلقة، وعلاقاتنا مكسورة، وانانيتنا مسيطرة؟ عيش الميلاد اليوم يعني ان نعيش منطق المسيح في عالم تحكمه المصالح والانانية، وان نختار الحق ولو كان الخيار مكلفا، والمحبة ولو بدت ضعفا، والخدمة دون انتظار مكافاة. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: فلنكرم ميلاد المسيح، لا بالاطعمة والشراب، بل بالاعمال الصالحة ونقاوة القلب. فحيث يولد المسيح يولد معه انسان جديد، له فكر جديد وسلوك جديد ونظرة جديدة الى الحياة والى الانسان'.
واضاف 'نحتفل بعيد الميلاد في وطننا لبنان فيما الجراح مفتوحة والاوجاع كثيرة والاسئلة مصيرية. نحتفل والمواطن مثقل بالهموم اليومية، خائف على لقمة عيشه وصحته، وقلق على مستقبل اولاده. نحتفل فيما الدولة لم تلتقط انفاسها بعد، ولم يسمح لها بفرض الوجود، والمؤسسات ما زالت مستضعفة، يتحكم بها ذوو النفوذ، والانقسامات ما زالت عميقة، والتشبث بالرأي او المكتسبات يزداد، والاستهتار بالدستور والقوانين ما زال سلاح الجميع، ما يفقد الثقة بينهم ويعمق الخلافات. نحتفل فيما المواطنون يعانون، يشعرون بانهم متروكون، غير مسموعين، وغير مرئيين. في هذا الواقع، ياتي الميلاد ليضعنا امام مسؤوليتنا الوطنية والاخلاقية والروحية. فالايمان ليس انفصالا عن الشان العام، ولا الكنيسة مدعوة الى الصمت امام الظلم او الخطأ. بتجسده دخل الله حياة البشر بكل ابعادها، لذلك لا يمكننا ان نفصل بين ايماننا وسلوكنا كمواطنين، ولا بين صلاتنا وموقفنا من الفقر والفساد والظلم والقتل والاستغلال. قال الرب يسوع: روح الرب علي لانّه مسحني لابشر المساكين، ارسلني لاشفي المنكسري القلوب، لانادي للماسورين بالاطلاق وللعمي بالبصر، واطلق المنسحقين في الحرية (لو 4: 18)'.
وذكر 'فيا من اوكلت اليكم شؤون هذا الوطن، الميلاد يذكركم بان السلطة ليست امتيازا بل خدمة، وان المركز ليس ملكا شخصيا بل امانة. المسيح، رب المجد، لم يات ليخدم بل ليخدم، فكيف بمن امنوا على شعب مجروح ومتالم؟ الشعب ليس قطيعا يقاد بحسب ما يناسب المصالح، ولا ورقة ضغط لنيل المكاسب، ولا اصواتا تستعمل في المواسم ثم تنسى. الشعب وجوه حقيقية، عائلات تتالم، شبان يهاجرون، شيوخ متروكون، اطفال يستعطون، مظلومون ينتظرون العدالة. الميلاد يدعوكم الى النزول من ابراج الخطابات الى مغارة الواقع، والى رؤية واقع الناس كما هو. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: من لا يهتم باخيه الانسان، لا يعرف الله كما ينبغي. اولى واجبات المسؤول ان يعي حاجات شعبه وان يعمل على تلبيتها، كما ان اولى مهام الحاكم ان تعم المساواة والعدل في رعيته'.
وقال: 'الميلاد يخاطبنا ايضا كمواطنين. المسؤولية لا تقع فقط على من هم في الحكم، بل على كل واحد منا. الميلاد يدعونا الى رفض ثقافة اللامبالاة، والخروج من منطق الشكوى العقيمة، وتحمل مسؤوليتنا في بناء مجتمع اكثر عدلا وصدقا وانصافا. يدعونا الى تربية اولادنا على القيم لا على التحايل على القانون واستغلال الاخر، وعلى الخدمة لا على المصلحة، وعلى الامانة لا على استغلال النفوذ. لو اهمل الرب شعبه وعامله بحسب اعماله وعقوقه هل كان تنازل وافرغ ذاته وتجسد متخذا طبيعتنا ليخلصها؟'.
وشدد عودة على 'ان التواضع والمحبة اللذين اعلنهما المسيح بميلاده هما الطريق الوحيد للخروج من ازمتنا العميقة. لا خلاص لوطننا بلا مصالحة حقيقية مع الحق، ولا قيامة بلا صليب، ولا ميلاد بلا توبة. الله لا يفرض خلاصه، لكنه يضعه امامنا كدعوة، فاما ان نقبل منطق المذود، او نبقى اسرى منطق القصور الوهمية التي تنهار على ساكنيها. لنتذكر دوما اننا زائلون وان الانسان لا يعرف متى تاتي ساعته، وانه يذهب خالي اليدين، لا يحمل معه الا تواضعه واعماله، لذلك، عوض تضييع الايام في ملاحقة الشهوات وجمع الثروات والاساءة الى الاخوة، ليكن ذكر الموت ماثلا امامنا، لا يغيب عن اذهاننا، كما يفعل الرهبان، لكي تكون حياتنا مجالا لتوبة مستمرة، وممارسة المحبة والرحمة والخير، مجالا للسلام مع انفسنا ومع اخوتنا. فلنرفع صلاتنا من اجل بلدنا الحبيب، عله يخلص من منطق الاسلحة الفعلية والكلامية، ومن سيطرة الانا وطغيان الحسد والحقد والمصلحة، فيولد المسيح في ضمائر الجميع وينعكس خيرا في سلوكهم وقراراتهم وخياراتهم. لنصل من اجل ان يعتق الرب الاله شعب لبنان من كل ما يكبل حياته، ويمنحه السلام والكرامة التي تليق بابناء الله. ولنرفع الصلاة من اجل كل متالم ومريض ومقهور ومخطوف، ومن اجل ان يعيد الينا اخوينا المطرانين بولس ويوحنا سالمين. الا سكن النور المشرق من بيت لحم قلوبكم، وحول طرق حياتكم من ظلمات هذا الدهر الفاسد الخداع الى نور يشع منكم لينير العالم، امين'.











































































