نسرين بلوط

يعبُّ الشاعرُ الفرنسيّ المصريّ الأصل، إدموند جابيس، من حِممِ العاطفة المتوهّجة الخلّاقة التي تجترحُ الغيبَ وتقترحُ السرياليّة الشرقيّة المعمَّقة، لتحملَه أطيارُ الشوق نحو الريح التي تداعبُ سكراتِ الماضي، مبحراً في سامقِ الغيمِ المرتحلِ إلى مدنِ الأصالة والتوهّجِ المرهف، وساكباً من عصارةِ أحلامه على أوراق الورد تبعثرَه بين انتمائِه الديني وتعلّقِه الفطري بوطنه الغائب.

في قصيدة «أغنية الغريب» يقول جابيس: «أنا في طورِ البحثِ الآن عن إنسانٍ لا أعرفه، لم يكن أبداً بهذا القدر سوى أنا بنفسي، منذ أن شرعتُ في البحثِ عنه، هل يملكُ عيني، ويديّ، وكل هذه الأفكار». هو تساؤلٌ فلسفيٌّ مشتّت، يبحثُ عن ذاتيّته بين التعاليم الباطنيّة التي نشأ عليها والأفكار التلقائيّة التي تراود خاطره عن أصوله وجذوره وحقيقة هواه كانسان. في حركات تظاهرةٍ شعريّةٍ برناسيّة كان بطلها فيكتور هوغو الذي يكتبُ للفن من أجل الفن، ويرمّم المشاعر وفقاً للتلقائيّة لا بهدف الإصلاح والتغيير - مع أنّ هوغو كان رائداً في تغيير مسارات الإصلاح السلوكي والاجتماعي في أوروبا، وناقداً للشرائح المنفرة من المجتمع الفرنسي - ولكنّ الافراط في بذل الأحاسيس يكون جليّاً وعصيّاً على الاستيعاب، في سرديّةٍ غنائيّةٍ تبثّ نجواها في تجاوزيّةٍ مطلقةٍ للأشياء. فهو لا يبترُ «أنا» الآخرين، بل يشملُ الانسانَ التائهَ الضائعَ في حشود الرياح وفلول الهزائم.

وفي قصيدة «البحر» يقولُ فيها: «لا يجب عليك أن تتحرّك، لا يجبُ عليك أن تتنفّس، يجبُ عليك أن تبقى جالساً أمامي، مثل شجرة صحبةَ ظلّها». ثمَّ يقولُ في قصيدة أخرى يقول: «ما الَّذِي يَحدُثُ خلفَ هذا البَابْ؟ كتابٌ يذرُفُ أورَاقَهْ، ما هِيَ قِصَّةُ هَذَا الكِتَابْ؟ يصبحُ مُدرِكَاً لصَرْخَةْ، لكنِّي أبصرتُ أحْبَاراً يدخلُونْ، قُرَّاءً مميَّزينْ، يأتونَ في مجموعاتٍ صغيرَةٍ، ليمنحونا أفكارَهُمْ، هَلْ قرأوا الكِتَابْ؟ إنَّهم يقرؤونهْ. هل قاموا بذلكَ من أجلِ مُتْعَتِةْ..؟ لقد توقَّعوا الكِتَابْ، إنهم جَاهِزونَ لمجَابَهةِ ذلكْ. هلْ يعرفونَ الشُّخُوصْ؟ انَّهم يعرفونَ شُهدَاءَنا. أينَ يوجدُ الكِتَابْ؟ داخلَ الكِتَابْ. مَنْ أنتْ؟ أنا حَارِسُ البيت، مِنْ أينَ أتيتْ؟، كنتُ أتَجَوَّلْ. هل يُوكِلُ صديقكْ؟ أنا مِثلُ يُوكِلْ. ما هو مَصيرُكْ؟ أنْ أفتحَ الكِتَابْ. هل أنتَ في الكِتَابْ؟ إنَّ مَكَانِي عَلَى العَتَبَةْ. ما الَّذِي حَاوَلتَ تعلُّمَهْ؟ في بَعْضِ الأحيانِ أتوقَّفُ في الطَّريقِ وأُسَائِلُ العلاماتِ، عالمَ أسلافيْ. أنتَ تمتَحِنُ الكلماتَ المُسْتَعَادَةْ. الَّليالي والصَّبَاحَاتِ التي لِمقَاطعيْ، نَعَمْ. ذِهْنُكَ يتجوَّلْ. أتجوَّلُ مُنْذُ ألفَا عَامْ. أجدُ صعوبةً في متابعتكْ. أنا أيضاً كثيراً ما حاولتُ التَّخَلِّي. هل لدينا قِصَّةٌ هُنَا؟».

يغلبُ المذهبُ التشكّكي في قصائد جابيس بطريقةٍ واضحة، فعلى طريقة ديكارت، هو يتساءلُ ويشكّكُ ويتأمّلُ حانقاً الاستحضارات الشائقة للسؤال، ويبرّرُ هذا اللجين العامر بالتربّص للماهيّة الكامنة في أعماقه، فهل يجدها في الكتاب أم على أعتاب الدروب وبقايا الذنوب التي تعلقُ في النفس البشريّة، هو انسانٌ معلّقٌ بين الحاضر والماضي، وبين الثواب والعقاب، والظلمة والنور، وماضي أسلافه وحكاياتهم مع أساطير التاريخ ونوافذه المشرفة على التغيير.

كما يبدو جابيس صحراويَّ النزعة في كتاباته، ولا عجب فقد آمن بأدب الصحراء واعتنق مبادئه التي تظلّلها روحُ الصمت، والتأمّل المبرم. وقد قال في هذا: «إنّ الصّحراء تدعونا أيضاً إلى أن نلقي السّمعَ إلى حسيسها وأن نمعن في الإصغاء لنبضها، فأنا كما المترحّل في تلك الأرض الغفل، أعملُ على حصر المساحة البيضاء على الصّفحة، وأجعل منها موطناً ومقاماً».

من سماتِ هذا الأدبِ الصحراويّ أنّه لا يرسمُ غايةً ولا وجهة، فهو كالتائهِ في البادية رغم ولهه بها، يبحثُ عن واحةٍ وهميّة يقضي في تعقّبها سنوات، ثمّ يكتفي ببضع قطراتٍ من الغيثِ السماويّ الذي تقترحُه عليه السماء. فالحاجةُ النازفةُ إلى الحقيقة تطرحُ بدائلَ إنشاديّة حالمة بين الشعر والقول والنثر. فلا وثبات مفاجئة تقحمُ المخيّلة، لأنّ قيثارةَ الصحراء هي ناموسٌ يحفلُ بتعليمات ومخاوف وأوامر ناهية، تدفعُ إلى المزيد من الأسئلة والتحاور مع النفس واقصائها عن الألق الباذخ من المحسّنات البديعيّة للكلمات، والتأثيرات الحارّة والباردة عليها.

وبما أنّه هو القائل: «الشّاعر هو قصيده الذي يكتبه. إنّه يجسّد المغامرة الموهوبة للكلمات. وهو ذلك الكائن الذي يحاكي داخل القوقعة العظيمة للكون، السّعي العبثيّ والمتكرّر للمحارة لاستقطار اللاّنهائيّ!» فقد كان ميل جابيس للسرياليّة واضحاً رغم التوضيح، شفافاً رغم التلميح، وقد أدّى تخبّطه بين حبّه لمصر وأصله اليهودي الرافض اللهجرة إلى منحه هويّةً غامضة، بقي يبحثُ عنها حتّى النهاية التي لم تمنحه أيضاً الأجوبة على تساؤلاته الكثيرة.