اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٧ أيلول ٢٠٢٥
في مسيرة الشعوب التي خاضت نضالات طويلة، كانت الذاكرة رصيدا معنويا، ومصدرا للتعبئة والالهام، تختزن لحظات التحول الكبرى التي شكلت وجدان الشعوب، ورسمت معالم مسيرتها، وبوصلة جماعية تشير الى الطريق رغم الانكسارات، غير ان الحالة الفلسطينية تكشف مفارقة مدهشة، حولت اكتوبر من حدث يستحق التأمل في تعقيداته وقراءته في سياقاته المتشابكة، الى مناسبة متكررة للإدانة في الخطاب الرسمي الفلسطيني.
وبمرور الوقت صار متلازمة تلاحق الخطاب الرسمي، وعبء ثقيل لا يمكن تجاوزه، او التعامل معه بعين ناقدة متوازنة، نمط لا يمثل اختلاف في التقييم، او اجتهادا سياسيا في قراءة الماضي، بل ازمة عميقة في ادارة الذاكرة الوطنية، وصياغة سردية توحد الفلسطينيين لا تفرقهم، وتمنحهم الامل، لا اسباب الخوف والاحباط.
خطورتها تكمن في افراغ الذاكرة الوطنية من بعدها التحرري، وتدويرها في قوالب سياسية ضيقة، حولت الماضي من مصدر شرعية نضالية، الى حجة ضد اي خيار خارج اطار المسار السياسي الرسمي، فالإصرار على تقديمه حدث معقد كـ'خطأ تاريخي'، لا ينقد التجربة، بقدر مصادرة حق الاجيال الجديدة في فهمه، ويفرض عليها سردية مقولبة، لا تقبل التعدد او الاعتراف بتعقيدها، ما يجعل من التاريخ اداة تقييد، لا تحرير، وسجلا انتقائيا، لا مرآة تعكس مسيرة شعب يقاوم الاحتلال.
هذه الظاهرة نادرة في تجارب الشعوب، فقد درجت حركات التحرر على تمجيد محطات نضالها، حتى في حال الاخفاق، او على الاقل تحويلها الى دروس ملهمة، تعزز روح الصمود، اما في الحالة الفلسطينية، فقد اختار الخطاب الرسمي شيطنتها، لا تفكيكها او استخلاص العبر منها، ما جعلها تبدو كجدار صد بينه وبين الشارع، لا جسرا يصل الماضي بالحاضر.
بهذا المعنى، فان المتلازمة ليست مجرد اشكال لغوي او بلاغي، بل هي عرض مكثف لأزمة سياسية اعمق تكشف المأزق في التوفيق بين الارث الثوري والنهج التفاوضي الذي فرضته اتفاقات اوسلو وتبعاتها.
وحين يتحول الماضي الى عبء يعجز الخطاب الرسمي عن استيعابه، تكون النتيجة اعادة انتاج ازمة الشرعية، وتضييق افق النقاش الوطني، وتحويل الذاكرة ذاتها الى لحظة اختبار حقيقية لكيفية تعامل الفلسطينيين مع تاريخهم وصياغة روايتهم الوطنية في ظل استمرار الاحتلال وتنامي الضغوط الداخلية والخارجية.
جذور الظاهرة تعود الى لحظة التحول الاستراتيجي منتصف التسعينيات، والتخلي تدريجيا عن لغة الثورة لصالح خطاب التسوية تحت مظلة اوسلو، فاصبح الماضي الثوري 'عبئا' يهدد 'الشرعية الجديدة'، وتمت اعادة تفسيره وانتاجه بشكل مختلف، ما جعله شاهدا على خطأ، لا إمكانية، وبهذا تحول اكتوبر الى مناسبة لتثبيت سردية سياسية ترى في كل فعل خارج هذا المسار 'مغامرة غير محسوبة'، متجاهلا السياقات التي أدت اليه.
ابعاد الظاهرة متعددة؛ رمزية، تسعى الى اعادة تشكيل المخيال الجمعي بما يتناسب مع الخط السياسي السائد، فاستخدمت مفردات مختلفة بدلا عن المقاومة، وسياسية، توظفه كأداة في مواجهة الخصوم الداخليين، وتثبيت شرعيتها بنزع شرعية اي خطاب بديل، ونفسية-اجتماعية، تزرع في وعي الاجيال الجديدة شعورا بان التاريخ سلسلة اخطاء، ما يعمق قطيعتهم مع ذاكرتهم الوطنية.
تأثيرات الظاهرة تتضح في تآكل ثقة القاعدة الشعبية، وعوضا عن ان يشكل الحدث نقطة انطلاق لحوار مفتوح حول جدوى الخيارات السياسية المختلفة، وظف لإغلاق باب النقاش، او لتقديم اجوبة جاهزة، ثم ان تكرار ذلك يبعث برسائل خارجية مفادها احادية الخيار، ما يخدم رواية الاحتلال التي تسعى لتثبيت فكرة ان البدائل غير ممكنة، وكل مسار ثوري محكوم بالفشل، لا بل والتراجع ايضا.
اخطار استمراها المستقبلية كبيرة، فالأجيال الجديدة ستنشأ على سردية مبتورة، تفصلها عن تجربة شعبها، وتحرمها الدروس والعبر، وبتحول الذاكرة الى اداة ادانة دائمة، سيفقد المشروع الوطني احد اهم مصادر قوته؛ الوعي التاريخي المتراكم، محولا الماضي الى سجنا يحاصر المستقبل، لا منصة تعلم.
ولتجاوز ذلك، لا بد من خطاب متزن، يقر بتعقيد التجربة وفرادتها، ويضعها في سياقها، دون تمجيد اعمى، او شيطنة متكررة، ومن ثم ترك المجال للمراكز البحثية للاطلاع بدورها في انتاج قراءة علمية ناقدة، بعيدة عن التوظيف السياسي، وفتح نقاشات وطنية اوسع، لبلورة سردية وطنية جامعة، لا تقصي أحدا، مع التأكيد على ان التجارب الثورية العالمية، رغم كلفتها، كانت جزء لا يتجزأ من مسيرة تحرر الشعوب وتقرير المصير، ولم تقدم يوما بانها أخطاء تاريخية.
ويبقى السؤال الأهم، هل سيظل اكتوبر محط إدانة فقط في الخطاب الرسمي، يعيد انتاج الازمة، ام سيتحول الى تجربة تقرأ بعين ناقدة، وتفتح الباب امام رؤية وطنية اكثر اتزانا؟ الاجابة ستحدد ليس فقط موقع الذاكرة الوطنية في حاضر الفلسطينيين، بل ايضا شكل المستقبل الذي يسعون اليه.