حملت المعركة التي خاضتها فصائل المعارضة للسيطرة على حلب في الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 مشاهد لم يصدقها كثر، وسيبقى كثير من تفاصيلها مجهولاً بعض الوقت، فالسقوط الدرامي لنظام بشار الأسد بعد 12 يوماً من الهجوم فاجأ العالم أجمع، وأثار تساؤلات حول أسرار التفكك السريع، وزعم محللون بأن المسيرات كانت عاملاً رئيساً في تهاوي النظام الذي أحكم قبضته على سوريا أكثر من نصف قرن.

إلا أن تحقيقاً أجرته مجلة 'نيو لاينز' الأميركية يفيد بأن انهيار نظام الأسد بعد سقوط حلب كان نتيجة حرب تجسس خفية وغير مرئية تزامنت مع الاستعدادات العسكرية للفصائل، وكان بطلها تطبيق هاتفي انتشر بين ضباط وجنود الجيش السوري بهدوء، فكان 'الطلقة الافتتاحية' في حرب سيبرانية صامتة ضد الجيش السوري.

التطبيق حمل اسم 'منظمة التنمية السورية'، التي تديرها أسماء الأسد، وصُمم بواجهة مألوفة وصور وشعارات مطابقة للمنظمة الرسمية، وادعى أنه مبادرة إنسانية وطنية من قبل السيدة الأولى لدعم 'أبطال الجيش العربي السوري'، وبدأ الترويج له في أوساط الجيش في أوائل صيف 2024 قبل أشهر من الهجوم العسكري، باعتباره تطبيقاً يساعد مستخدميه على الحصول على مساعدات مالية.

وللحصول على المساعدة المالية يطلب التطبيق من الجنود تعبئة معلوماتهم الشخصية: الاسم الكامل، واسم الزوجة، وعدد الأبناء، ومكان وتاريخ الولادة، والإجابة عن أسئلة غير مثيرة للشكوك مثل 'ما نوع المساعدة التي تتوقعها؟' و'حدثنا أكثر عن وضعك المالي'، لكن حساسية ودقة الأسئلة تتصاعد لاحقاً عبر السؤال عن 'رقم الهاتف والرتبة العسكرية ومكان الخدمة الدقيق، وصولاً إلى الفيلق والفرقة واللواء والكتيبة'، وفي المقابل يتلقى المستخدمون تحويلات شهرية تقارب 400 ألف ليرة، أي نحو 40 دولاراً في ذلك الوقت.

ما بدا استبياناً تقليدياً لتحصيل المساعدة المالية كان في الواقع نموذجاً متقناً لجمع بيانات حساسة تُغذّي خوارزميات عسكرية متقدمة، إذ أكد مهندس برمجيات سوري للمجلة الأميركية، أن هذه الاستمارات ساعدت في توليد 'خرائط عسكرية حية'، بخاصة حين يجمع التطبيق بين الرتبة والموقع العسكري للضابط، مما كشف عن نقاط القوة والثغرات في خطوط دفاع الجيش السوري.

وفي أسفل صفحة التطبيق، كان هناك فخ آخر، وهو رابط تواصل عبر 'فيسبوك' ومن خلاله، كانت تُسحب بيانات تسجيل الدخول لحسابات التواصل الاجتماعي للمستخدم وتُحول بهدوء إلى خوادم خارجية، وإن نجا المستهدف من الفخ الأول فغالباً ما يقع في الثاني.

واستغل التطبيق تردّي الأوضاع المعيشية للعسكريين في سوريا، إذ انخفضت رواتب الجنود إلى ما دون 20 دولاراً شهرياً، واستشرى الفساد حتى صار بعض الضباط يبيعون أرغفة الخبز للجنود.

وبعد تثبيت التطبيق وجمع المعلومات الأساسية، زُرع برنامج تجسس متطور يُعرف باسم 'سباي ماكس' الذي يمكّن المهاجمين من التجسس على كل شيء في الهاتف من المكالمات والرسائل والصور والملفات، إضافة إلى الكاميرا والميكروفون، مما يسمح بالتجسس الحي على المستخدم من دون علمه.

وتفيد مجلة 'نيو لاينز' بأن التطبيق ساعد على تتبع الموقع الجغرافي المباشر، ومراقبة تحركات الجنود والمواقع العسكرية، والتنصت على المكالمات، وتسجيل محادثات القادة لمعرفة الخطط العملياتية مسبقاً، وسحب الوثائق والخرائط والملفات من الهواتف، بل وحتى تفعيل الكاميرا للحصول على بث مباشر من داخل المنشآت العسكرية.

وأشارت إلى أنه بفضل تلك البيانات تمكنت فصائل المعارضة من شن هجمات دقيقة على مواقع مكشوفة، وقطع الإمدادات عن وحدات معزولة، وحتى التشويش على أوامر القيادة بإرسال تعليمات متضاربة، مرجحة بأن البيانات استخدمت أيضاً في استهداف غرفة العمليات العسكرية في حلب، مما عجّل بانهيار خط الدفاع الأول للنظام.

وما زالت الأطراف المنفذة للهجوم السيبراني مجهولة، إلا أن التحقيق يوضح بأن 'أحد النطاقات المرتبطة بالمخترقين استضيف على خوادم داخل الولايات المتحدة، التي سبق أن دعمت المعارضة المسلحة، لكن من المحتمل أن الموقع الجغرافي هذا كان تضليلاً مقصوداً'.

وأفاد التقرير بأن فصائل من المعارضة وأجهزة استخبارات إقليمية أو دولية أو أطرافاً أخرى غير معروفة ربما كانت وراء تنفيذ هذا الهجوم السيبراني، مشيراً إلى أنها ليست المرة الأولى التي تُستغل فيها الهواتف المحمولة عسكرياً في سوريا، ففي فبراير (شباط) 2020، نسي جندي سوري هاتفاً داخل منظومة دفاع جوي روسية من طراز 'بانتسير'، فتعقبت إسرائيل إشارة الهاتف ونفذت غارة جوية خاطفة دمرت المنظومة بالكامل.

ولا يمكن الجزم بعدد الهواتف التي تعرضت للاختراق، لكن التقديرات تشير إلى أنها قد تكون بالمئات أو حتى الآلاف. وأظهرت إحدى الرسائل المنشورة في قناة 'تيليغرام' المرتبطة بالتطبيق، في منتصف يوليو (تموز) 2024، أن نحو 1500 حوالة مالية حُولت خلال ذلك الشهر وحده، في حين تحدثت منشورات أخرى عن دفعات إضافية لاحقة.

وفي مقابلة أجراها مع 'التلفزيون السوري' عقب سقوط النظام، كشف الرئيس أحمد الشرع عن تفاصيل إضافية تتعلق بعملية 'ردع العدوان'، الاسم الذي أُطلق على الحملة العسكرية التي أطاحت الأسد، وأكد الشرع أن التخطيط للعملية استغرق نحو خمسة أعوام، وأن النظام كان على علم بوجودها، لكنه فشل في التصدي لها.

ولمّح التحقيق إلى أن معرفة الشرع بتفاصيل دقيقة حول عجز النظام قد تكون نتيجة للاختراق السيبراني لصفوفه، مرجّحاً أن ما يُعرف بـ'حصان طروادة السوري' قد يكون أحد المفاتيح الجوهرية لفهم أسباب انهيار النظام من الداخل. (independentarabia)