اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ١ تشرين الأول ٢٠٢٥
بقلم: د. صبري صيدم
هل كان المشهد عابرا حين اعتلى بنيامين نتنياهو منصة الأمم المتحدة مخاطبا العالم؟ أم كان خطأ ارتكبته المؤسسة الأممية؟ وهل يجوز أن يُتاح له منبر المتحدثين بعدما صدرت قرارات محكمة العدل الدولية التابعة للمؤسسة صاحبة ذلك المنبر؟ بينما صدر عن محكمة الجنايات الدولية أيضا مذكرة اعتقال بحقه، خاصة مع سجل حافل للرجل من جرائم واعتداءات لم تغب عن شاشات العالم برمته؟
هذا السؤال لا يقتصر على قانونية الحضور من عدمه، بل يمتد ليشمل الخطاب الذي ألقاه نتنياهو، والذي لم يكن مجرد نص سياسي حسب المتابعين، بل هو إعلان واضح بالنسبة لهم عن ازدواجية المعايير، وامتحان عسير لمصداقية المؤسسات الدولية.
فالمحكمة التي أقرّت بانطباق اتفاقية منع الإبادة على الشعب الفلسطيني، وأشارت إلى ضرورة اتخاذ تدابير عاجلة لحمايته، تُفاجأ اليوم بأن المنظمة الأم، التي تتبع لها تلك المحكمة، تسمح لزعيم متهم سياسيا وأخلاقيا بأن يستعرض خطاباته ويبرّر عدوانه. هنا يبرز السؤال الكبير لدى جمهور المهتمين: ألسنا أمام تجاوز صارخ لهيبة محكمة العدل الدولية، حين يصبح قرارها ورقا محفوظا في الأدراج، بينما الفاعل المتهم يقف على منبر المتحدثين؟
إن السماح لنتنياهو بالخطاب كما يرى البعض، لم يكن تفصيلا بروتوكوليا، بل رسالة سياسية فاقعة مفادها، حسب القانونيين، أن الأمم المتحدة قد وقعت من جديد أسيرة موازين القوى، وأن القانون الدولي يُستدعى فقط حين يخدم الأقوياء. وهو ما يدفع أهل العدالة للسؤال عن كيفية امتلاك المؤسسة الأممية الحق أن تعلن دعمها للقضاء الدولي، ثم تشرّع أبوابها لمن صدرت بحقه شبهات وتوصيات قضائية؟ أي مصداقية تبقى حين تصبح المنصة أعلى من المحكمة، و»الميكروفون» أبلغ من قرار العدالة؟ التجاوز هنا ليس قانونيا، حسب المختصين فحسب، بل هو تجاوز أخلاقي أيضا. فالأمم المتحدة، التي أنشئت لحماية السلم والأمن الدوليين، تعطي الضوء الأخضر لخطاب الكراهية والتحريض الذي اعتاد نتنياهو أن ينسجه ضد الفلسطينيين.
وبينما توثّق المنظمات الحقوقية الجرائم اليومية من قتل وتجويع وحصار، يُكافأ الفاعل حسب هؤلاء، بفرصة جديدة ليقلب الوقائع ويقدّم نفسه ضحية. أليس في ذلك إهانة لضحايا المجازر؟ أليس في ذلك امتهان لآلاف الشهادات الموثقة في تقارير لجان التحقيق؟
لقد بات واضحا وفق جمهور القانون، بأن العدالة الدولية في كفة، والسياسة الواقعية في كفة أخرى. وما دامت الكفة الثانية أثقل، فإن المظلوم سيظل يصرخ بلا صدى، ولكن الخطر الأعظم يكمن في تحطيم الثقة العامة بمفهوم العدالة ذاتها. فإذا كان المجتمع الدولي يتجاهل قرارات محكمته العليا، فكيف سيقنع شعوب الأرض بأن القضاء فوق السياسة؟ وإذا كان المتهم يكرّم بمنصة، فكيف يقتنع المظلوم بأن قضيته ستُسمع؟
إن السؤال المطروح اليوم لا يخص الفلسطينيين وحدهم، بل يخص كل شعوب العالم المعرّضة للعدوان. فإذا سُمح لنتنياهو بأن يتحدث رغم وضوح الانتهاكات، حسب قول المتابعين، فإن أي مجرم حرب آخر سيجد المبرر نفسه غدا. وهكذا تُهدم أعمدة القانون الدولي لبنة لبنة، حتى تغدو المحكمة بلا سلطة والأمم المتحدة بلا روح.
ما نحتاجه اليوم هو وقفة عالمية تعيد التوازن إلى هذه المعادلة المختلّة، فإما أن تُحترم قرارات محكمة العدل الدولية، ويُمنع المتهمون والمدانون من استخدام منابر الشرعية الدولية لتبييض سجلهم، أو أن نعترف بصراحة بأننا أمام مسرح سياسي لا علاقة له بالعدالة، ولعلّ السؤال الذي يفرض نفسه من خلال السائلين أنفسهم: هل تريد الأمم المتحدة أن تبقى بيتا للشعوب، أم منبرا للجلادين؟
لقد ظن نتنياهو حسب المراقبين أنه بخطابه سيغطي على جرائمه، لكن الحقيقة أن صور الأطفال تحت الركام، وأصوات الأمهات المفجوعات، ودموع الأسرى المحرومين من أبسط الحقوق، أبلغ من كل خطاب. هذه الصور هي التي ستبقى في ذاكرة العالم، حتى لو صفق له بعض الحاضرين. والتاريخ، لا المنابر، هو الحكم الأخير.
إن السماح لنتنياهو بإلقاء خطابه أمام الأمم المتحدة، وفق أولئك المراقبين ليس مجرد حدث سياسي بروتوكولي، بل تجاوز لروح العدالة، وتجاوز لمكانة المحكمة الدولية، وتذكير مؤلم بأن العالم لا يزال يتعامل مع فلسطين باعتبارها ساحة اختبار لصدقية شعاراته. ومع ذلك، فإن الشعب الفلسطيني، الذي صمد رغم الحصار والجراح، يدرك أن العدالة قد تتعثر لكنها لن تموت.
فالأمم قد تخذل، والمحاكم قد تُحاصَر، لكن الشعوب هي التي تكتب الكلمة الأخيرة، والكلمة الأخيرة هنا هي أن الحق لا يُمحى بخطاب، والعدالة لا تُلغى بصفقة «مايكروفون». المفارقة كانت وخلال إعداد هذه الكلمة أن سألت أحد الضالعين في شؤون الأمم المتحدة عن الأمر فأجاب: لو أن العالم يقاس بالأخلاق لكان عددٌ كبيرٌ من المتحدثين سيحرم أصلا من الحضور، فما بالك عندما يعطى الحق بالكلام والوعظ؟!
أيا كان الموقف فإن الأمم المتحدة مطالبة بالنظر في الأمر عاجلا أم آجلا. على العموم، ننتظر ونرى!
ملاحظة: المقال مدّعم عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
[email protected]