اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٧ حزيران ٢٠٢٥
على لهب حطب مشتعل، يقلب الشيف كامل عبده الشوربة الوحيدة المتاحة حاليا للطهي، بصمت مشوب بالقهر، وخلفه ما يشبه 'مغارة مظلمة' كانت يوما مطعما يعج بالحياة في غزة.
كان مطعمه يقدم الأكلات الغربية والشرقية، ويعمل فيه نحو 100 عامل، لكن حرب الإبادة الجماعية دمرته بنسبة 80%، وتسببت في فقدان أغلب معداته.
'تم تدميره من عدة جهات، بما في ذلك الطاولات، والكراسي...'، يقول عبده لـ 'فلسطين أون لاين'. لكنه رغم الخراب، رفض أن يغلق المطعم.
ويجسد ذلك حال ما تبقى من المنشآت الاقتصادية في غزة، التي تعرض معظمها للتدمير على مدار 20 شهرا من حرب الإبادة التي تشمل التجويع والتعطيش، ويحاول من بقي حيا من أصحابها إعادة إحيائها والحفاظ على صمودها.
يقول عبده: 'ما خليت الباب مسكر... اشتغلت بأي حاجة كانت متوفرة في السوق'. وفي بداية الحرب، طبخ لحمة العجل عندما توفرت، ثم الكبة، واللانشون الذي كان يأتي عبر المساعدات الإنسانية، وصولا إلى التونة وزبادي التونة.
وبينما ينثر بعض التوابل على الشوربة، يتابع: 'كنا نشتري مكونات الطعام بغلاء الأسعار لأنه مش كتير موجود، وكنا نساعد الجرحى والمرضى في المستشفيات، اللي مش ملاقيين إلهم أكل... كنا نوفر إلهم الأكل بصعوبة جدا'.
لكن حتى هذه الأصناف لم تعد متوفرة: 'ما ضل غير شوربة...'، كما يقول. ومع قلة الموارد وغلاء كل شيء، انتقل إلى بيع شوربة سلاطعين وأخطبوط عند توفره، حيث يبيع كأسا منها بخمسة شواقل.
لكنه يشير إلى أن الصيادين يتعرضون للاستهداف يوميا، ما يجعل السمك نادرا وباهظا: 'كتير بيتصاوبوا وكتير بيستشهدوا... وسط حالة طلب كبير على السمك، خصوصا للجرحى والمرضى اللي محتاجينه عشان التغذية العلاجية'.
ورغم توقف معظم النشاط التجاري، لا يزال عبده يطبخ الشوربة يوميا، بهدف البقاء لا الربح: 'ما بستفيد ماليا منها... يادوب بجيب حق مكوناتها، والحطب، والمياه المفلترة، والبهارات الباهظة الثمن'.
الهدف، كما يقول، هو 'الحفاظ على صمود المطعم وما أخلي بابه مغلق'. لكن العاملين فقدوا مصدر دخلهم في ظل الحرب، ولم يبق سوى عامل واحد أصم، يتمسك عبده به رغم كل شيء: 'ما إله حد... إله عمر عندي، بيجي بيكنس، وبينضف، وبيساعدنا، عنده سبع أنفار عشان يقدر يعيلهم'.
إعادة من الصفر
في مكان آخر من المدينة المنكوبة، خياط قديم يحيك بصبر ما تبقى من خيوط الحياة. سمير صقر، الذي شهد ولادة مصنعه قبل 50 عاما، يعيد بناءه بيديه، بعد أن أكلته النار ولم تترك له سوى الإصرار.
يجلس صقر بين ماكينات خياطة متفرقة، لا تجمعها إلا إرادة العمل والبقاء. مصنعه، الذي افتتحه عام 1973، احترق بالكامل، بكل ما فيه من آلات وبضائع.
'ما ضل عندي ولا ماكينة... جبت ماكينة ماكينة عشان أوقف على رجليا'، يقول لـ 'فلسطين أون لاين'، بصوت تخنقه الحسرة.
ويستجمع صقر قواه للعمل رغم ما عصف به من مآس، فقد هزته حادثة استشهاد زوجته قبل أشهر كنتيجة مباشرة للحصار. يقول: 'هي مريضة كبد... اضطررنا نوديها المستشفى، قالوا ملهاش لا إبر ولا علاج... الدكتورة قالت: خلال 72 ساعة رح تموت، وهو ما كان فعلا'، في ظل انعدام العلاج والغذاء.
رفض صقر النزوح لجنوب قطاع غزة تحت أي ظرف، لكنه نزح قسريا داخل مدينة غزة نحو 12 مرة: 'كل ما تقرب الدبابات، أشرد من مكان لمكان'.
أما مكان عمله الحالي الذي يعيد فيه بناء مصنعه، فيعاني من أضرار جزئية، ولا كهرباء فيه، فاضطر لشراء ألواح طاقة غالية الثمن لتشغيل ماكينة واحدة تلو الأخرى.
'قدرة التشغيل 20% فقط... المواد الخام مش متوفرة... القماش بنشتريه بالمتر حسب طلب الزبون... ما في كميات... كنت أستورد من الصين... الآن مفش'، يشرح تدهور أوضاع عمله.
رغم كل شيء، لا يفكر في إغلاق المشروع، معللا ذلك بحاجته لتدبير لقمة العيش، والحفاظ على مشروعه. ويشغل صقر حاليا ستة عمال: 'كل واحد جايب مكينته استعارة من قرايبه... اللي الله بيرزقنا بنقسمه... وأنا بس يصحلي آخر النهار 50 شيكل أشتري كيلو طحين'.
ويؤكد أنه اختار رغم فداحة الخسائر، الاستمرار في مشروعه: 'بدي أصمد وأصبر... نتمنى انتهاء الحرب، بس خسارتنا البشرية لا تعوض... كل بيت فيه جرح'.
اليوم ورغم المأساة، يحيك ما يستطيع من ملابس للمستشفيات، وبدل عمليات، و'فيستات' للجمعيات الخيرية، حيث يتركز عمله على هذا المجال، لكنه يؤكد أن حرب الإبادة غيرت كل شيء: 'اتدمرنا... وكل اشي راح'.
ويطلب من أهل الخير دعم الشباب العاملين في مشروعه: 'من أول الحرب حاطين إيدهم بإيدي... ما إلهم بيوت، قاعدين بخيم... وجايين يشتغلوا عشان لقمة العيش'.
صيانة مكلفة.. بلا جدوى
أما بين الأسلاك والمراوح المعطلة، يكابر الاختصاصي في صيانة الأجهزة الكهربائية الخسائر كل صباح. همام الشيخ، الذي اعتاد ترميم الأجهزة، بات يرمم صبره، قطعة تلو الأخرى، تحت وطأة أزمة الكهرباء وشح قطع الغيار وأمام زبائن أنهكتهم الحرب.
يعمل الشيخ، حاليا تحت ظروف تكاد تكون مستحيلة. محله تعرض لضرر تسبب به قصف مبنى مقابل له أدى إلى فتح جميع الأبواب وسرقة ما بداخله. هو الآخر رفض النزوح للجنوب، لكنه نزح داخليا في مدينة غزة 12 مرة.
يقول لـ 'فلسطين أون لاين': 'الآن نشتغل على جهاز طاقة نص كيلو، وإذا ما في شمس، نشتغل على مولد كهربائي وسعر الكيلو 43 شيكل... أقل شي بدنا نسحب كيلو باليوم... كله بيطلع على ظهر المواطن'.
وأغلب أعمال الصيانة أصبحت محصورة في المراوح وبعض الخلاطات القليلة من مطاعم يقتصر عملها على تقديم بعض المشروبات.
ومع انهيار القدرة الشرائية، يروي: 'واحد بده يصلح مروحة، بقوله 100 شيكل، لأنها موتورها اليوم بـ80... بيقلي: بديش أصلح'.
وبات يجلب قطع الغيار حسب الطلب فقط، بعدما كان يستورد كميات كبيرة من مصر: 'كنت أجيب المخزن كله قطع غيار... الآن بدور على كل قطعة بمفردها'.
أما دخله، فصار ربع ما كان عليه قبل الحرب، يكتفي بلقمة عيش تعيل سبعة أفراد.
'هاي المهنة حاليا غير مجدية، بس أنا صامد وبدي أضل في البلد'، يخلص إلى هذه النتيجة، رغم مأساوية ظروف العمل وتحدياته حاليا.
وتشير أحدث تقارير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) لعام 2025 إلى أن أكثر من 82% من المنشآت الاقتصادية في غزة تضررت كليا أو جزئيا بسبب الحرب، فيما تجاوزت الخسائر المباشرة وغير المباشرة 53 مليار دولار.
وبحسب تقرير الأونكتاد الصادر في مايو/أيار 2025، تراجع الناتج المحلي الإجمالي في القطاع بنحو 85%، مع ارتفاع معدلات البطالة إلى 80%. هذا الانهيار الاقتصادي ترافق مع ارتفاع جنوني في الأسعار، حيث سجلت بعض السلع الغذائية الأساسية زيادة بأكثر من 400%.
ومنذ 2 مارس/آذار، يغلق الاحتلال الإسرائيلي المعابر المؤدية إلى قطاع غزة، ويمنع إدخال المساعدات الإنسانية، ضمن حرب الإبادة المستمرة. المساعدات، وإن وجدت، تصل شحيحة وتحت ضغط دولي.
وترتكب (إسرائيل) منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وبدعم أميركي، إبادة جماعية في قطاع غزة، تشمل قتلا وتجويعا وتدميرا وتهجيرا، متجاهلة النداءات الدولية وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها، ما أسفر عن استشهاد وجرح أكثر من 180 ألف غزي، معظم أطفال ونساء.
وبينما تتهاوى معظم المنشآت الاقتصادية، يصر رجال منهكون على صمود بقايا مشاريعهم، بلا فائض مالي، ولا أرباح تذكر، لكن بإصرار لا ينكسر.