اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٧ أيلول ٢٠٢٥
لو بُعِثَ هتلرُ من جديد، وقُدِّرَ له أن يخطُبَ في الجمعيّةِ العموميّةِ للأُمَمِ المتّحدةِ، لما حَصَلَ له مثلُ ما حصلَ لنتنياهو، زعيمِ النّازيّةِ الجديدة، أو لِنَقُلْ: هذا الذي زاوجَ بين الصّهيونيّةِ والنّازيّةِ ليُخرِجَ هولوكوستًا جديدًا يُعتَبر أضعافًا مُضاعفةً من ذاك الذي أنتجه هتلر.
صورةُ «النَّتِن» وهو يخطبُ في قاعةِ الأُمَمِ المتّحدة، وهي خاويةٌ على عُروشِها، تحكي الكثير.
فهذا الذي يَعتبِرُ نفسَه زعيمًا لـ«شعبِ اللهِ المختار»، وكان –بحسبِ هذا الوصف– أن تقفَ له كلُّ شعوبِ الأرضِ التي دونه جينيًّا، وهي التي خلقها اللهُ لخدمةِ أسيادِها من اليهود، فإذا به مَنبوذٌ من كلِّ شعوبِ الأرض «غيرِ المختارة»! كيف لشعبِ اللهِ المختار أن يُصبِحَ منبوذًا لا يحتملُ الناسُ سماعَه، ولا يحتملون رؤيةَ شكلِه، وهو قادمٌ من حربِ إبادةٍ غيرِ مسبوقةٍ، بل ينظرون إليه بقرفٍ وتقزُّزٍ لا يُحتَمل، فيسارعون بالخروجِ من القاعةِ قبل أن ينالَهم شيءٌ من رائحتِه النَّتِنة.
هؤلاء الذين يُمثّلون البشريّةَ جمعاء، بكلِّ أشكالِها وألوانِها وأديانِها وأعراقِها وأطيافِها، بخروجِهم من القاعة، أَعلنوا أنّهم لا يريدون سماعَه، ولا يَعتَرِفون بترّهاتِه. وقد اكتشفوا كلَّ افتراءاتِه؛ أفعالُه الإجراميّةُ لا يمكنُ لِسانٌ صَلِفٌ أن يُزيّنَها أو أن يُظهِرَها بغيرِ مظهرِها.
هو الذي يرى نفسَه ممثّلًا للرّبِّ في الأرض، ووارثًا إرثَ الأنبياءِ، وحاديَ قصّةِ «الضحيّةِ والمظلوميّةِ» التي لا يُجاريهم فيها أحد، فإذا به يُغرِّدُ خارجَ السِّرب، ولم يَعُدْ هناك من يَعترِفُ بتغريدِه؛ ينعقُ وحيدًا، لا يَلقى أُذنًا تسمعُه، أو تُلقي له بالًا، إلّا من بَضعةٍ تشوّهَت وِجهتُهم الأخلاقيّةُ والسّياسيّةُ من شِرذِمةٍ قليلين.
مَشهدُ القاعةِ الفارغةِ كان أَقوى أثرًا في نُفوسِهم الصّدئةِ من كلِّ الصواريخِ التي تُلقى على رؤوسِ الأبرياءِ في غزّة. لن يُمحى هذا المشهدُ من الذّاكرةِ الإنسانيّةِ، وسيبقى لعنةً تُطارِدُهم، ولن يُمحى من صُدورِهم، وسيبقى عقدةً نفسيّةً تُؤكّدُ حقيقتَهم المنبوذةَ البغيضةَ لكلِّ شعوبِ الأرض.
حرَقوا خيامَ النّازحين، فحرَقَ اللهُ قلوبَهم هنا، في القاعةِ التي يجتمعُ فيها ممثّلو البشريّةِ جمعاء؛ حُرِقت صورتُهم وسرديّتُهم وكلُّ دعاياتِهم المُضلِّلةِ الكاذبة.
لقد وجدت كلماتُه صدىً في القاعةِ الفارغةِ، لكنّها لم تَجدْ صدىً طيّبًا يُذكَرُ في أيِّ مكانٍ آخر.
لن تُنسى، ولن تُشطَب هذه الصّورةُ أبدًا، لأنّها العلامةُ البارزةُ، والوصمةُ الدّامغةُ، التي ستُطارِدُهم أبدَ الدّهر، وستُبقِيَهم في دائرةِ العقدةِ التاريخيّةِ التي يُعانون منها بما كسبت أيديهم: عقدةُ نبذِ البشريّةِ لهم.
عدا عن ذلك، فالخطابُ لم يكن خطابًا سياسيًّا أو دبلوماسيًّا يليقُ بمُمثّلِ دولةٍ، بل كان مشحونًا بالتّهديدِ والتقريعِ، واستعمالًا مُملًّا لأسطوانةٍ مَشروخةٍ عافها النّاس: «مُعاداةُ الساميّة».
وقد حرّضَ في خطابِه على المسلمين في الغربِ بطريقةٍ حادّةٍ، تُعبّرُ بوضوحٍ عن أنّه مُصابٌ بـ«الإسلاموفوبيا». فماذا لو أنّ زعيمًا مسلمًا حرّضَ على اليهود في الغرب؟!
وذهب مُقلِّدًا، بكلِّ دقّةٍ، ما كان يفعله هتلر؛ بذاتِ المُكبِّراتِ راح يَصدَعُ في خرابِ غزّة، بخفّةٍ وهَبلٍ، وتقليدٍ لعصرٍ قد باد، ليُعيدَ الكرّةَ في زمنٍ قد تبدَّلت وسائلُه، ولكنّه أبى بروحِه الشّريرةِ إلّا أن يجمعَ سيِّئَ القديمِ إلى سيِّئِ الجديد.
الخطابُ، بتفاصيلِه، يحملُ تناقضاتٍ كثيرةً فاشلةً، لا يَسأمُ من تكرارِها في كلِّ خطابٍ من الكذبِ والافتراءِ، والانطلاقِ من يومِ السّابعِ من أُكتوبر، كأنَّ التّاريخَ قد بدأ من هناك، ويُريدُ للنّاسِ أن لا يلتفتوا قَبلَه ولا بعدَه. لقد فَشلَ فشلًا ذريعًا، ودفع النّاس –بالعكس تمامًا– أن يُعيدوا القضيّةَ إلى مُربّعِها الأوّل وينظروا في كلِّ جرائمِهم.
لا أُريدُ تحليلَ الخطابِ فقط على طريقةِ معرفةِ الموضوعِ من عنوانِه؛ خروجُ الوفودِ من القاعةِ يُبيّنُ أين وَصلَ هذا الكيانُ اللَّقيطُ، وما هي مكانتُه الحقيقيّةُ عند شعوبِ الأرضِ قاطبةً.
لقد أساءَ اللهُ وجهَه، وشكّلَ بهذا الخطابِ الفظِّ فشلًا مُركّبًا لا مثيلَ له في تاريخِ الأُمَمِ المتّحدة.