اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١ تشرين الثاني ٢٠٢٥
لقد بات مسلما به ان ما بعد السابع من اكتوبر ليس كما قبله، لا في الجغرافيا ولا في الوعي ولا في ميزان القوى، فاليوم، وبعد اكثر من عامين على الزلزال السياسي والعسكري الذي اعاد فلسطين الى واجهة العالم، تبدو السلطة الفلسطينية وكأنها الكيان الوحيد الذي فاته القطار، كانت امام فرصة نادرة لاعادة ضبط اعداداتها، واستعادة سردية التحرر الوطني، وطرح نفسها مجددا كفاعل سياسي جامع، لكنها اختارت النأي بالنفس، فوجدت نفسها في عزلة مزدوجة؛ عزلة عن الشارع الفلسطيني الذي تجاوزها، وعن العالم الذي لم يعد يرى فيها سوى وظيفة ادارية مؤقتة، فلم تعد موقع اجماع في النقاش الجاري، بل مطلب هامشي ضمن ترتيبات اقليمية ودولية اكبر، دون ان تمتلك القدرة على التأثير الفعلي في مسارها.
السلطة التي ولدت من رحم اتفاق اوسلو قبل اكثر من ثلاثة عقود تبدو اليوم وكأنها اصبحت حبيسة الاتفاق، فبرغم الاجماع الشعبي والسياسي، ليس فلسطينيا، بل وحتى داخل دوائر الاحتلال، على موت اوسلو، تواصل التمسك به، وكأنها تتشبث بحبل يجرها في حقيقة الامر الى القاع، فلم يعد اطارا سياسيا، بل قيدا مؤسسيا واقتصاديا وامنيا يشل قدرتها على اتخاذ اي قرار سيادي، لقد استخدم الاحتلال الاتفاق منذ يومه الاول كأداة لتفكيك المشروع الوطني الفلسطيني، وشراء الوقت لاستكمال مشروعه الاستيطاني، وفرض الوقائع على الارض، ونجح عبره في تحييد واحدة من اهم عناصر القوة الفلسطينية، وتحويل السلطة الى حاجز امني يفصل بين الفلسطينيين وتطلعاتهم نحو الحرية، حتى وان كان ذلك تحت شعارات براقة عن السلام والتنمية الاقتصادية.
في المقابل، تخلت السلطة ومعها المنظمة تدريجيا عن دورها التاريخي الذي سعت اليه لعقود، كممثل للمشروع الوطني، لتتحول الى جهاز اداري محدود الصلاحيات، يعتاش على فتات المساعدات الدولية، وبمرور الوقت، ازدادت انغماسا في تفاصيل الحياة اليومية والامنية على حساب المشروع التحرري، حتى فقدت جزءا كبيرا من شرعيتها الشعبية، هذا الانفصال كان هو احد اخطر تداعيات ما بعد السابع من اكتوبر، رغم انه لم يكن بالأمر الجديد كليا، وبرزت فصائل وقوى، وحتى شخصيات جديدة، من داخلها وخارجها، تعبر عن نبض الشارع، وتطرح بدائل ميدانية وسياسية، ولم يعد بإمكان السلطة مجاراتها بينما تبقى اسيرة خطاب قديم، لا يخاطب اللحظة ولا يستجيب لأسئلتها الجديدة.
يقرأ الاحتلال هذا الواقع جيدا، لذلك يسعى الى ابقائها في حالة الحد الادنى من القدرة؛ ميزانيات لا تكاد تكفي لدفع الرواتب، وهامش سياسي ضيق، دون اي مظهر سيادي حقيقي، وهكذا تحولت السلطة الى كيان بلا ادوات تأثير، فاقدة للقدرة على الرفض، مجبرة على قول 'نعم' لكل ما يعرض عليها، والاحتلال راض عن هذا الشكل، سلطة ضعيفة تحافظ على الاستقرار الامني النسبي وتمنع الفوضى، لكنها لا تمتلك ارادة سياسية ولا قدرة على صناعة واقع جديد.
غير ان هذا الوضع لا يمكن ان يستمر طويلا، فالفلسطينيون يعيشون اليوم مرحلة اعادة تعريف لمفهوم 'التمثيل' ذاته، طيف واسع من جيل ما بعد اوسلو لا يرى في السلطة تجسيدا للدولة المنتظرة، بل نظاما بيروقراطيا وامتدادا لقيود الاحتلال، هذا التحول في الوعي يفتح الباب امام مرحلة جديدة من الصراع على الشرعية داخل البيت الفلسطيني نفسه، حيث ستصبح الشرعية رهنا بالقدرة على تمثيل ارادة الناس، لا بقرارات الاعتراف الدولي او اي شرعيات عفا عليها الزمن.
المستقبل يحمل احتمالين متناقضين؛ الاول ان تواصل السلطة مسارها نحو التفكك البطيء، لتتحول الى ادارة مدنية بلا مضمون سياسي، وربما الى سلطة محلية تديرها العواصم المانحة ويحدد سقفها الاحتلال، وهو السيناريو الارجح اذا ما استمر الجمود الراهن، اما الاحتمال الثاني، وهو الاقل ترجيحا، ان تدرك ان استمرار اوسلو يعني نهايتها، فتشرع بإعادة بناء المشروع الوطني على اسس جديدة؛ وحدة ميدانية، شرعية نضالية، واستراتيجية مقاومة متكاملة.
ان اخطر ما يواجه الفلسطينيين اليوم ليس فقط استمرار الاحتلال، بل وبنفس القدر، استمرار الوهم بان الادارة تحت الاحتلال يمكن ان تتحول الى مشروع تحرر، فاما ان تتحول السلطة الى رافعة لاعادة بناء الكيان الوطني الفلسطيني الجامع، او تبقى مجرد شاهد على زمن السلطة بلا سيادة، والحكم بلا شرعية، والمؤسسة التي تتآكل بصمت، وفي كلتا الحالتين، السابع من اكتوبر لم يكن حدثا عابرا، بل لحظة تأسيسية جديدة في التاريخ الفلسطيني، تعيد رسم معادلات القوة والشرعية، وتفرض سؤالا وجوديا على السلطة؛ هل تبقى في عباءة اوسلو... ام تولد من جديد؟

























































