كتب ناصر قنديل في 'البناء'

طبعاً يمكننا الجزم بأن طرح تفجيرات البيجر على جدول الأعمال الأممي ليس من نتاج أفعال وزارة الخارجية اللبنانية، ولا بطلب من الحكومة اللبنانية التي كان رئيسها ذات يوم ممثل لبنان في نيويورك، لأن الحكومة ومؤسساتها لم يصل بعد إلى سماعها أن هناك عشرات من علماء التكنولوجيا الحديثة ومنها الذكاء الصناعي قد قدّموا استقالاتهم من كبريات الشركات العالمية احتجاجاً على وضع منتجاتها وعقول علمائها في خدمة جرائم الحرب الإسرائيلية ضد لبنان وفلسطين، وإن عشرات مثلهم قد تم طردهم أو إقصاؤهم من مواقع حساسة في هذه الشركات، لأنهم اعترضوا على هذا التوظيف اللاأخلاقي للتكنولوجيا، وبالتأكيد لا تعرف الحكومة أن هؤلاء يقودون تحركاً تحت عنوان “أخلقة التكنولوجيا”، وأن جريمة تفجيرات البيجر ترد ضمن سياق الشواهد والأدلة على الاستخدام الإجرامي للتكنولوجيا.

يقول العلماء الذين أقرّت مسودة الطلب الذي تقدموا به لتشريع أممي يحول دون الاستخدام الإجرامي للتكنولوجيا، وأعلن عن قبوله الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس كأرضية للحوار حول حوكمة الذكاء الصناعي ودرء مخاطر استخدامه، أن حرب الإبادة في غزة وتفجيرات البيجر يشكلان نماذج غير مسبوقة على كيفية تسخير التكنولوجيا لارتكاب جرائم الحرب، وربما يكونان مثالاً موازياً لاستخدام انشطار الذرة كابتكار علمي في تصنيع القنابل النووية التي قتلت الآلاف بلا تمييز بينهم، وخارج إطار كل أخلاقيات قوانين الحرب، والقانون الدولي الإنساني. ويقول العلماء إن التفجير العشوائي لأجهزة المناداة (البيجر)، مثل الاستهداف العشوائي بالغارات والمتفجرات للأماكن السكنية وتدمير أحياء كاملة في غزة، بداعي الاشتباه العشوائي الذي تمّ بناء على استخدام تطبيقات قدّمتها شركات عالمية من منتجات الذكاء الصناعي.

الدولة اللبنانية تعرف أن هناك آلافا من مواطنيها استشهدوا أو أصيبوا بعطل دائم وتألموا ونزفوا وفقدوا عيناً أو الاثنتين أو يدا أو بعضاً منها او اليدين، وأن ذلك حدث بفعل استهداف عشوائي لهم وهم خارج أي دور قتالي بمن فيهم المنتسبون الى جسم المقاومة العسكري، وأن تصريحات كثيرة صدرت من مراجع قانونية عالمية حول انطباق معايير توصيف جريمة الحرب والجريمة بحق الإنسانية على هذا الاستخدام والتوظيف الجرمي للتكنولوجيا، وأن تصريحات أممية صدرت بهذا الخصوص، ومثلها تصريحات أوروبية رسمية، وتكفي العودة إلى ما قاله فولكر تورك مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والمتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف ومسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، لتشكيل مضبطة اتهام في توصيف جريمة الحرب والجريمة بحق الإنسانية والجريمة الإرهابية، وكلها تنطبق على تفجيرات البيجر، لكن الحكومة التي تعرف كل هذا تدير ظهرها غير معنية، بينما هي مسؤولة لمجرد وقوع الجريمة على أراضيها حتى لو استهدفت غير لبنانيين، فكيف وهم مواطنون منذ أكثر من عشر سنوات، وهم آلاف من المواطنين؟

مرت سنة على الجريمة، والحكومة لم تحرّك ساكناً، بل إنها لم تكلف نفسها عناء إصدار بيان بالمناسبة، ولا أن تكلف أي وزير من وزرائها بتوجيه رسالة على الواتساب لأسر هؤلاء المواطنين، تواسيهم وتؤكد لهم دون أي التزام مادي أنها معنوياً تقف معهم، علماً أن واجب الدولة أكثر من ذلك بكثير، وواجبها أن تبلسم جراحهم وتعمل على علاجهم، وتضع برامج خاصة تعرض على من يرغب منهم استعدادها لتأهيلهم ودمجهم في مهن يستطيعون أداءها، وأن تعد ملفاً قضائياً متكاملاً للتقدم بشكوى أمام المحكمة الجنائية الدولية بحق قادة الكيان الذين تباهوا علناً بمسؤوليتهم عن الجريمة، ووصلت الوقاحة برئيس حكومة كيان الاحتلال بنيامين نتنياهو أن يهدي الرئيس الأميركي دونالد ترامب نموذجاً مذهباً من أداة الجريمة، الذي تباهى بالهدية بصفته شريكاً في الجريمة مهنئاً بعظيم الإنجاز، والحكومة على قلبها أطيب من العسل؟

جماعة الحكومة في لبنان مهتمون بتفجيرات البيجر ويتحدّثون عنها، فقط ليقولوا إن حزب الله مخترق، ويتنمرون عليه للقول بلا جدوى السلاح، والحكومة التي تحترم نفسها ومسؤوليتها الوطنية، قد تفتح نقاشاً في غرف مغلقة حول جدوى سلاح المقاومة، لكنها قطعاً لا تشارك العدو فرحته، ولا تهمل واجبها ومسؤوليتها تجاه مواطنيها، ولا تتخلى عن حق الوطن والدولة بملاحقة الفاعلين، فهل تستفيق الحكومة مع ما فعله علماء التكنولوجيا من غير اللبنانيين بإثارة الاستخدام الإجرامي للتقنيات الحديثة، وتصنيف تفجيرات البيجر من ضمنها؟