اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة الديار
نشر بتاريخ: ٢٥ نيسان ٢٠٢٥
لا يقتصر تأثير الاكتئاب على المشاعر والأفكار فقط، بل يمتد ليشمل وظائف الجسد، خاصة الجهاز الهضمي، وتحديدًا المعدة. فقد أثبتت الدراسات الحديثة وجود علاقة وثيقة بين الصحة النفسية وصحة الجهاز الهضمي، مما يبرز الدور المحوري الذي تؤديه الحالة النفسية في حدوث اضطرابات المعدة، مثل القرحة، والقولون العصبي، وحتى فقدان الشهية أو الإفراط في الأكل.
يرتبط الجهاز الهضمي بشكل مباشر بالجهاز العصبي من خلال ما يُعرف بـ 'محور الدماغ – الأمعاء'، وهو شبكة معقدة من الإشارات العصبية والهرمونية التي تنقل الرسائل بين الدماغ والأمعاء. وعندما يعاني الشخص من الاكتئاب، يحدث اضطراب في هذه الإشارات، مما يؤدي إلى تغيرات في إفراز العصارات الهضمية، وانقباض عضلات المعدة، وسرعة حركة الأمعاء أو بطئها، وهو ما قد يظهر على شكل حرقة في المعدة، غثيان، انتفاخ، أو حتى إمساك وإسهال متناوب.
كما أن الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب غالبًا ما يُظهرون حساسية مفرطة تجاه الألم، وهو ما يجعل الأعراض الهضمية أكثر إزعاجًا لديهم مقارنة بالأشخاص الأصحاء نفسيًا. وقد يتطور الأمر لدى بعضهم إلى ما يُعرف بـ 'اضطرابات الأمعاء الوظيفية' مثل متلازمة القولون العصبي، وهي حالة شائعة تؤثر في ملايين الناس حول العالم، وتُعد الحالة النفسية أحد أبرز العوامل المحفزة لها.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال تأثير الاكتئاب في سلوكيات الأكل، حيث يلجأ بعض المصابين إلى الإفراط في تناول الطعام، لا بدافع الجوع، بل كمحاولة لا واعية للهروب من الألم النفسي أو لملء فراغ داخلي يسببه الحزن والشعور بالوحدة. في المقابل، هناك من يفقد شهيته كليًا، نتيجة لانعدام المتعة وانخفاض الدافع، وهي من الأعراض الأساسية للاكتئاب. كلا السلوكين يحملان عواقب جسدية مباشرة، إذ قد يؤدي الإفراط في الأكل إلى عسر الهضم، وزيادة الوزن، وتراكم الدهون الحشوية التي تضع ضغطًا على المعدة والأمعاء. أما الامتناع عن الأكل، فقد يؤدي إلى فقدان الوزن بشكل غير صحي، وهزال عضلي، واضطراب في توازن الأملاح والفيتامينات، مما ينعكس سلبًا على وظائف الجهاز الهضمي واستقراره.
ولا يقتصر التأثير في السلوك الغذائي فحسب، بل يمتد إلى التفاعل بين الأدوية النفسية والجهاز الهضمي. فبعض مضادات الاكتئاب الشائعة، مثل مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (SSRIs)، قد تؤدي إلى أعراض مزعجة في المعدة، أبرزها الغثيان، وفقدان الشهية، والإسهال. كما أن هذه الأعراض قد تزيد من حدة التوتر لدى المريض، ما يفاقم حالته النفسية ويخلق حلقة مفرغة بين الألم الجسدي والمعاناة النفسية.
وفي ظل هذه العلاقة المتشابكة، تتجلى أهمية المعالجة المتكاملة التي لا تركز فقط على الجانب الجسدي، بل تُعنى أيضًا بإعادة التوازن النفسي والعاطفي. فالعلاج النفسي السلوكي المعرفي يُساعد المرضى على فهم أنماط التفكير السلبية وتعديلها، مما يُقلل من السلوكيات الغذائية المضطربة. وتقنيات الاسترخاء مثل التأمل وتمارين التنفس العميق تُسهم في تخفيف توتر الجهاز العصبي اللاإرادي، وبالتالي تهدئة الجهاز الهضمي. أما التغذية المتوازنة، فهي تشكّل ركيزة أساسية في تحسين كيمياء الدماغ وتحفيز إفراز الهرمونات المسؤولة عن تحسين المزاج، كالسيروتونين والدوبامين.
أخيراً، لا بد من التأكيد على أن فهم الترابط العميق بين الاكتئاب وصحة المعدة لم يعد ترفًا علميًا أو تفصيلًا ثانويًا في مسار العلاج، بل أصبح ضرورة طبية ملحّة. إذ أن الاقتصار على معالجة الأعراض الجسدية دون الالتفات إلى الأسباب النفسية قد يطيل أمد المعاناة ويُضعف فعالية العلاج. أما عند مواجهة المشكلة من جذورها، نفسية كانت أم جسدية، فإن الطريق نحو الشفاء يصبح أكثر وضوحًا، وأكثر استقرارًا.