اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٣١ أيار ٢٠٢٥
بينما كانت أصوات الزغاريد والموسيقى تملأ شارع 'صالات الأفراح' ذات يوم، غيّرت حرب الإبادة الإسرائيلية كل شيء، ليتحول هذا الشارع الواقع غرب مدينة غزة، على امتداد شارع الرشيد الساحلي، إلى واحد من أبرز مشاهد النزوح في القطاع المنكوب.
على جانب الطريق، كانت أم فادي، نازحة من شمال غزة، تحاول تثبيت قضيب معدني بين أكوام الركام، لتساعد ابنها على بناء خيمة من قماش مهترئ. مشهدها بين أعمدة الإنارة المحطمة وزجاج القاعات المكسور يعكس ما آلت إليه الأوضاع. تقول: 'لم يَبقَ لنا شيء. بيتنا احترق بالكامل. وصلنا إلى هذا الشارع بعد أن ضاقت علينا الأماكن، لكنه بالكاد يحمينا من الليل'.
لم تعد المركبات قادرة على المرور بسهولة في هذا الشارع الضيق الذي تغطيه الخيام المؤقتة والعائلات الفارّة من الموت شمال القطاع. كانت هذه المنطقة قبل الحرب تعجّ بقاعات الأفراح والمطاعم الراقية، ومظاهر الاحتفال، من أضواء زينة وسيارات فارهة وحتى الزبائن القادمين من كافة أرجاء القطاع للاحتفال بمناسباتهم.
اليوم، ومع توالي موجات النزوح، غصّ الشارع بالعائلات المشرّدة. أصبحت القاعات المدمّرة مأوىً مؤقتًا، فيما تحوّل الشارع إلى أرض مهملة، مليئة بالمطبات والحفر، نتيجة الاجتياحات الإسرائيلية والجرافات التي دكّت كل ما اعترض طريقها.
سليم أبو النور، 53 عامًا، كان يمتلك منزلًا من طابقين في بيت لاهيا. وجد نفسه فجأة نازحًا، حافي القدمين تحت القصف، يبحث عن مكان يلوذ فيه. يقول: 'جمعنا بعض الأقمشة من القاعات وبنينا بها هذا المسكن المؤقت'. يتنهد ثم يضيف: 'هذا النزوح هو الثامن لي منذ بداية الحرب. أخشى أن يكون الأخير قبل تهجيرنا خارج غزة'.
ولا يختلف حال رنا أبو ظاهر، وهي أم لأربعة أطفال، إذ تؤكد أنها لم تجد مكانًا في مراكز الإيواء. 'لا حمامات، لا ماء، لا دواء. ابني يعاني من السكري ولا نجد له شيئًا. كل يوم هنا أطول من سابقه'، تقول بصوت خافت.
وفق تقديرات منظمة الهجرة الدولية، فإن أكثر من 610 آلاف شخص نزحوا داخل غزة منذ انهيار وقف إطلاق النار في مارس الماضي. وتشير تقارير محلية إلى تدمير أكثر من ألف منزل شمال غزة خلال 48 ساعة فقط، ما أدى إلى موجة نزوح غير مسبوقة.
ويتخوف مراقبون من مخططات إسرائيلية لحصر السكان في شريط ساحلي ضيق جنوب القطاع، مما قد يمهد لعملية تهجير قسري خارج فلسطين. هذه المخاوف تزداد يومًا بعد يوم في ظل تسارع العمليات العسكرية وتضييق المساحات الآمنة.
في المساء، يصبح الشارع أكثر ظلمة ووحشة، باستثناء بعض الأضواء الخافتة المنبعثة من بسطات صغيرة ومقاهٍ مرتجلة أقامها النازحون كمصدر دخل مؤقت وسط موجة غلاء فاحشة. لا وجود فعلي لأي جهة رسمية لتنظيم الأمور. معظم ما يُقدّم من مساعدات يأتي عبر مبادرات فردية أو جمعيات محلية توزّع على استحياء بعض وجبات الأرز أو المياه المحلاة، لكن الأعداد الكبيرة تجعل من حصول الجميع على المساعدة أمرًا مستحيلًا.
على ساحل غزة، قرب نفس الشارع، يقف أمير أبو حصيرة، 27 عامًا، يراقب الأمواج بصمت. 'كنت أحتفل بزفاف أصدقائي في هذه القاعات'، يقول بحسرة. 'البحر لم يعد جميلًا، صار شاهدًا على الغرق الجماعي لإنسانيتنا'.
المشهد لا يقتصر على شارع صالات الأفراح فقط، بل يمتد إلى ساحات عامة وأرصفة شاطئية، امتلأت كلها بالنازحين الذين لم يجدوا مأوى غير السماء. في ظل غياب أبسط مقومات الحياة، باتت الأمراض الجلدية تنتشر بين الأطفال، وتفتقر النساء إلى الخصوصية في قضاء حاجاتهن. يقول أحد النازحين، طلب عدم الكشف عن اسمه: 'نقضي حاجتنا في الزوايا المهجورة أو نحفر في الرمل. الشارع الذي كان للفرح صار اختبارًا يوميًا للبقاء'.
ووفق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أصدرت سلطات الاحتلال أكثر من 35 أمرًا بالتهجير القسري في عام 2025، طالت أكثر من مليون شخص، في حملة وُصفت بأنها 'الأخطر منذ بدء الإبادة الجماعية قبل أكثر من 19 شهرًا'. ويشير المرصد إلى تزامن التهجير مع سياسة ممنهجة للتجويع واستهداف المناطق السكنية.
رغم قساوة المشهد، ما زال هناك من يتمسّك ببصيص أمل. أم فادي، التي أنهكها الانتقال المتكرر، تهمس: 'ربما تنتهي الحرب. ربما نعود إلى بيوتنا. لكن حتى ذلك الحين، علينا أن نعيش… حتى لو كان العيش يعني نصب خيمة فوق الركام'.