اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ١ تشرين الأول ٢٠٢٥
الكاتب:
اسماعيل جمعه الريماوي
في زمن الانكسار العربي، لم يعد غريبًا أن يخرج مسؤول أمريكي مثل توم باراك ليقول بملء الفم: 'لا يوجد شيء اسمه الشرق الأوسط. هناك قبائل وقرى، تم إنشاء الدول القومية عام 1916 من قبل الإنجليز والفرنسيين'، كلمات تبدو في ظاهرها تحليلًا سياسيًا، لكنها في حقيقتها طعنة جديدة في جسد أمة تُعامل وكأنها جثة بلا روح، كعكة تتسابق السكاكين لاقتسامها.
ما يقوله باراك ليس مجرد رأي شخصي، بل هو إعادة إنتاج للسردية الاستعمارية التي سعت منذ سايكس–بيكو إلى قتل فكرة الأمة الجامعة، وزرع بدائل هزيلة مكانها: دويلات صغيرة مشغولة بحدودها المصطنعة، بأنظمتها الخانعة، وبشعوبٍ أُنهكت وقُهرت وغُسلت أدمغتها لتؤمن أن الولاء للوطن الصغير هو النجاة، حتى وإن كان الثمن هو موت الأمة الكبيرة.
خطورة هذا الخطاب أنه يجد صدى في واقع عربي مأساوي، أنظمة تخلت عن أي مشروع جامع، شعوب تُحاصر في لقمة عيشها وتُدجّن بالحديد والنار، انقسامٌ ينهش الجسد من المحيط إلى الخليج، وأمة كاملة يتم تصويرها وكأنها لا تستحق أن تكون أكثر من فسيفساء من الطوائف والعشائر والقبائل، عندها يصبح من السهل على باراك وأمثاله أن يطلّوا بوقاحة ليقولوا: أنتم لستم أمة، أنتم مجرد قرى متناثرة.
لكن الحقيقة التي يحاولون طمسها أن هذه الأرض لم تكن يومًا بلا دول أو حضارات من الالاف السنين، و ان بعض شوارع القاهرة او احدى مقاهيها هي اقدم بمئات السنوات من عمر أمريكا، من الفراعنة إلى البابليين، ومن الأمويين إلى العباسيين والعثمانيين، الشرق الذي يصفونه اليوم بأنه مجرد 'قبائل' كان عبر التاريخ قلب العالم، ومركز حضارات صنعت السياسة والعلوم والثقافة. كل ما فعله الاستعمار أنه أعاد رسم الخرائط وقطع الأوصال، ثم زرع في النفوس وهْم الحدود والهوية الضيقة، حتى نُسيت الفكرة الكبرى: أننا أمة واحدة وإن تقطعت بنا السبل.
إن أخطر ما يواجهنا اليوم ليس فقط الاحتلال أو التفتيت، بل حالة الموت السريري التي يراد فرضها علينا، حيث تُغتال روح الانتماء، وتُستبدل بوعي مسجون في قفص الحدود الصغيرة، في هذا المناخ، تصبح الأمة مجرد 'كعكة' على طاولة الكبار، يُقرر الآخرون كيف تُقسم، ولمن تُمنح الحصة الأكبر.
لكن، ورغم كل هذا السواد، تبقى الحقيقة أن التاريخ لم يرحم أمةً تخلت عن ذاتها، ولم يترك في ذاكرته سوى من قاوم وتمسك بجذوره، إن أراد باراك وأمثاله إقناع العالم أن هذه الأمة قد ماتت، فذلك لا يكون إلا إذا استسلمنا نحن وقبلنا أن نُختزل في صورة 'قرى وقبائل'، أما إذا نهضت الشعوب من سباتها، واستعادت وعيها بوحدتها وهويتها الجامعة، فإن خطاب الاستعلاء سيتحول من 'كعكة الشرق الأوسط' إلى كابوسٍ يلاحق كل من خطط لتقسيمها.