تعتبر لوحة الفنان «جبران طرزي» Gebran Tarazi المعروضة في «متحف نابو» شمال لبنان واحدة من أبرز الأمثلة التي تعكس تداخل الفن والتاريخ والذاكرة الثقافية في عالم الفن المعاصر. فحين نقف أمام هذه اللوحة، لا نرى مجرد تجريدات هندسية، بل نحن أمام تأملات فلسفية عميقة تتخطى حدود الشكل البصري إلى عالم من الرموز والأساطير التي استعادت لغتها في لغة حديثة. اللوحة ليست مجرد أعمال لونية، بل هي تجربة فكرية تُعيد صياغة الأسطورة لتأخذ شكلاً جديداً في الفضاء المعاصر. عندما نتأمل لوحة جبران طرزي، نُلاحظ أنها تتجنب التصوير التقليدي أو التمثيل المباشر للواقع. بدلاً من ذلك، يلجأ الفنان إلى الأشكال الهندسية البسيطة مثل المربعات والمثلثات التي تتداخل وتتشابك بشكل يتسم بالنظام والتماثل. لكن هذا التماثل ليس ثابتاً أو جامداً، بل يحمل في طياته فوضى متناهية الصغر تكمن في الفوارق الدقيقة بين الأشكال، التي تمنح اللوحة إيقاعاً نابضاً بالحياة. هذه الفكرة تُشبه إلى حد بعيد الطريقة التي تتعامل بها الأساطير القديمة مع التكرار والدورة المستمرة للحياة والموت. ففي ملحمة جلجامش، كان التكرار يشير إلى الصراع المستمر بين الإنسان والموت، وفي أسطورة بعل، كانت الطبيعة تموت وتبعث في دورة لا تنتهي. أما في لوحة طرزي، فإن المربّع المغلق قد يرمز إلى الجسد المادي الذي يخضع للموت، بينما مثلثاته المفتوحة تمثل الطاقة الروحية أو الصعود.

هذه الرمزية الهندسية لا تمثل فقط حركة فلسفية أو فكرية، بل تنقل أيضاً تفسيراً بصرياً للأفكار الميتافيزيقية. اللوحة، بهذا المعنى، لا تروي حكاية تاريخية أو أسطورية بشكل مباشر، بل هي عبارة عن لغة رمزية تعيد قراءة الأسطورة في شكل رياضي ومنطقي. لا تُعتبر هذه الأساطير حكايات ذات طابع خرافي فحسب، بل هي أنماط تمثل حركة الوجود نفسها: الحياة التي تُولد ثم تموت ثم تُبعث مجدداً، والنظام الذي يتبع الفوضى ثم يعود ليحقق توازناً.

لكن هذا البحث عن الهوية عبر الأشكال الهندسية لا ينفصل عن الذاكرة الثقافية الشعبية في المنطقة، والتي كانت، ولا تزال، جزءاً من الحياة اليومية. إذ يربط طرزي بين اللوحة الحديثة وتاريخ طويل من الزخارف والنقوش التي كانت تزين النسيج العربي، من التطريز التقليدي إلى زخارف الموزاييك. ففي لوحته، يواصل جبران طرزي هذا التسلسل الزمني ويُعيد تفسير الرموز القديمة بلغة حديثة، من خلال التكرار المنتظم للأشكال الهندسية. المربعات تشبه النسيج نفسه؛ الفراغات بين الخطوط، والحواف الدقيقة، تُحاكي خيوط التطريز التي تُمثل الذاكرة الجماعية. وعندما نركز على اللون الأخضر المائي الذي يميز اللوحة، نكتشف أنه ليس مجرد اختيار جمالي، بل هو لون الفيروز الذي كان يُستخدم في الطقوس القديمة كرمز للحياة والنمو. هذا اللون يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأسطورة أدونيس وبعل، حيث يشير إلى دورة الحياة المتجددة في الربيع.

لكن اللوحة لا تقتصر على مجرد الجمع بين الرمزية والذاكرة البصرية، بل تحمل أيضاً تحدّياً فكرياً. إنها تتجاوز مفهوم الجمال التقليدي القائم على الإحساس المباشر أو المحاكاة. اللوحة تقدم جمالاً هندسياً عقلانياً، يعتمد على الفهم البصري للنظام الداخلي للأشكال. هذا النوع من الجمال، الذي تحدّث عنه كانط ومالرو، هو جمال ينبع من إدراك الانسجام الداخلي بين الأجزاء، وليس من محاولة تقليد الواقع. هكذا تصبح اللوحة أكثر من مجرد شيء نراه، بل هي طريقة تفكير عبر العين.

كل خط في اللوحة يمثل فكرة، وكل زاوية هي معادلة رياضية. قد يعتقد البعض أن الفن هو مجرد تعبير عن المشاعر أو الأفكار، لكن في حالة جبران طرزي، يمكننا القول إن الفن هو إعادة تفكير في الكون من خلال الشكل. وكل تكرار في الأشكال الهندسية يحمل رسالة حول العلاقة بين النظام والفوضى، بين الثابت والمتغير، وبين الحياة والموت. هذه العلاقة العميقة بين الشكل والرمز تشير إلى أن الفن ليس مجرد تجميل للواقع، بل هو أداة للفهم. هنا، تتلاشى الحدود بين الفن والرياضيات، بين الجمال والفكر، ليُصبح الفن فعلاً فلسفياً.

نعود في النهاية إلى سؤال الهوية الثقافية، الذي يشكل جوهر المعرض الذي تُعرض فيه هذه اللوحة. هل الهوية ثابتة في الزمن، أم أنها متجددة ومتطورة مع مرور الوقت؟ ، توضح لوحة جبران طرزي أن الهوية ليست مجرد مجموع للماضي، بل هي عملية مستمرة من التفاعل بين الرموز والأساطير والواقع المعاصر. إن الرموز التي كانت تمثل الأسطورة في العصور القديمة، هي اليوم أدوات للفهم والتفسير البصري للعالم. هذا هو جوهر الحداثة في الفن: القدرة على تقديم الرمز القديم بلغة معاصرة تتفاعل مع أسئلة الزمن الجديد.

اللوحة هنا تمثل نقطة التقاء بين الماضي والحاضر، بين الأسطورة والفن المعاصر. إنها لا تروي قصة عن الأسطورة، بل تُعيد قراءة الأسطورة نفسها من خلال الأشكال. هذه اللوحة ليست استذكاراً للماضي، بل إعادة تفعيل للرموز القديمة التي تحيا في داخلنا. كل شكل هندسي فيها، كل لون، وكل خط يحمل في طياته ذاكرة هذا التاريخ الذي لا يموت. وكما تعيد الأساطير نفسها عبر الأجيال، فإن هذه اللوحة تعيد تفسير الذاكرة البصرية بأسلوب جديد وواعد. في الختام، يمكن القول إن لوحة جبران طرزي تمثل أكثر من مجرد عمل فني تجريدي. هي رمز حي لفكرة أن الهوية ليست ثابتة، بل هي تجدد دائم وتفاعل مستمر بين الماضي والمستقبل.