فجّر آساف كوهين، النائب السابق لقائد وحدة 8200، مفاجأة مدوّية خلال ظهوره على القناة 12 العبرية حين أقرّ بأن الصواريخ الإيرانية “تستهدف في معظم الأحيان مواقع عسكرية”، لكنها قد تصيب مناطق سكنية. هذا التصريح غير المألوف من شخصية أمنية رفيعة يهدم جوهر السردية الإسرائيلية التقليدية، التي طالما اتهمت إيران وحلفاءها باستهداف المدنيين عمدًا، من دون مواربة أو تمييز. لكن ما كشفه كوهين يتجاوز مجرد تصحيح في توصيف الأهداف، إذ يفتح الباب على مصراعيه أمام سؤال أكثر خطورة: أين تنتهي حدود الفضاء العسكري وأين تبدأ حياة المدنيين في إسرائيل؟.

في الواقع، لا وجود لهذا الحد الفاصل في التجربة الإسرائيلية. المؤسسات العسكرية والأمنية لا تتموضع على أطراف المدن، بل تتغلغل في عمقها، داخل المستشفيات والمدارس والجامعات وحتى المباني السكنية. لم تعد مواقع القبة الحديدية ومقرات الاستخبارات والقيادات اللوجستية محصورة في أماكن مغلقة ومعزولة، بل أُقحِمت في قلب النسيج المدني تحت ذرائع أمنية، حتى أصبحت جزءًا من الحيز اليومي لحياة السكان. هذا التمركز ليس مجرد خيار دفاعي، بل هو سياسة مدروسة، تهدف إلى تحقيق حماية تكتيكية عبر الاحتماء بالبشر، وإلى بناء سردية إعلامية جاهزة تُوظَّف عند كل ضربة على أنها اعتداء على “مدنيين أبرياء”.

حين استُهدف مستشفى سوروكا في بئر السبع، أطلقت 'إسرائيل' حملة واسعة تتهم العدو باستهداف منشأة طبية، متجاهلة أن أجزاء من المستشفى قد جرى تحويلها إلى بنية عسكرية، ما جعله هدفًا مشروعًا وفق قوانين الحرب. هذا النوع من التمويه المتعمد يكشف عن منطق ثكني عميق تُدار به الحياة المدنية في 'إسرائيل'، حيث تُلغى المسافة بين الجندي والمدني، بين المعركة والحي السكني. في هذا السياق، تصبح كل شقة محتملة أن تكون بجوار هدف عسكري، وكل إسرائيلي مشروع إفادة على “وحشية الآخر”، حتى لو كان تموضعه هو الذي جلب الخطر إليه.

هذا النمط من التمركز يعيد إلى الواجهة مفهوم “مجتمع الثكنة”، حيث لا يقتصر دور الفرد على كونه مواطنًا، بل يُعاد تشكيله ليصبح جزءًا من منظومة الحرب، حتى وهو في منزله. في 'إسرائيل' يتحول الإسرائيلي إلى جندي مُستنفَر ومُعَرّض ومطلوب منه الانضباط والتماهي مع المنظومة، لا الاعتراض عليها. المؤسسة الأمنية لا تكتفي بتحريك الجنود على الجبهات، بل تعبّئ المجتمع كله في خدمة خطابها، بحيث يصبح القصف على مدينة مأهولة فرصة لإعادة إنتاج الشرعية الأخلاقية للحرب، وليس لحظة مساءلة.

ما لم يقله كوهين بصراحة، قاله بالضرورة: إسرائيل لا تُعرّض نفسها للخطر فقط من الخارج، بل من الداخل أيضًا، حين تدمج الحرب في عمرانها المدني، وتحوّل سكانها إلى أدوات ضمن آلية الردع والدعاية. هذا التداخل الخطر لا يمكن اعتباره مجرد خطأ موضعي أو سوء تقدير تكتيكي، بل هو جزء من معمار الدولة ذاتها، التي لم تعد تفصل بين الحماية والتوظيف، بين الدفاع والتضحية. وبينما يهاجم البعض كوهين بوصفه “ساذجًا” أو “متراخيًا”، فإن ما قاله بصوته يعري واحدة من أكثر استراتيجيات إسرائيل فتكا: إدارة مجتمعها كجبهة قتال شاملة، حيث لا أحد في منأى عن النار، ولا أحد بريء تمامًا من هندسة موقعه فيها.