اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٢٣ أيار ٢٠٢٥
كتب ناصر قنديل في 'البناء'
الوضع يشبه كثيراً ما كان عليه، عندما أحرق الطيار الأميركي آرون بوشنيل نفسه أمام سفارة كيان الاحتلال في واشنطن احتجاجاً على المجازر المرتكبة في غزة، ورفضاً للمشاركة الأميركية في هذه الجريمة سواء بتزويد الكيان بالسلاح والذخائر والأموال أو بتقديم الغطاء له والدفاع عنه والتصدّي لكل محاولة لمساءلته وتسخيف كل وصف لأفعاله الجرميّة بمسمّياتها الحقيقية، أو كما يعتقد الكثيرون ويظنّ بعضهم أن بوشنيل كان يعلم عن مشاركة مباشرة لأفواج من الطيارين الأميركيين في ارتكاب الجريمة، وليس مهماً ما يصدر من بيانات إدانة وتجريم للفعل الذي أقدم عليه الأستاذ الجامعي الأميركي الياس رودريغز، بإطلاق الرصاص على دبلوماسي إسرائيلي وموظف في السفارة الإسرائيلية في واشنطن، وانتظار الشركة لتسليم نفسه لها وهو يهتف فلسطين حرة، لأن إطلاق صفة الإرهاب على فعل رودريغز أو التحدّث مجدداً عن التهمة البائدة الخشبيّة الجاهزة لمعاداة السامية، لن يغير شيئاً من حقيقة أن ما فعله رودريغيز كان فعل احتجاج شبيه بفعل بوشنيل تعبيراً عن اليأس الذي يصيب آلاف الناشطين الذين تفجّر غضبهم أمام هول المجزرة والهول الأشدّ صعوبة هو تآمر حكومات العالم وصمتها، حيث لا أفق تتيحه السياسة لحلول، ولا أفق لاحتجاجات يجري قمعها، ولا أفق لصراخ لا يسمعه أحد، وتُصمّ الآذان عمداً عن سماعه.
الذين لم يقوموا بإدانة الجرائم الإسرائيلية على مدى سنة ونصف، وأمامهم أكوام جثث الأطفال تتراكم على أبواب المستشفيات الخارجة عن الخدمة بفعل الحصار في غزة، ولا يرون من هول ما يجري إلا مصير الأسرى في غزة، وتجاهلوا لعقود ولا زالوا يتجاهلون الأسرى الفلسطينيين المعتقلين في ظروف لا تشبه بشيء ما يمكن تقبّله لاعتقال إنسان، هؤلاء متمسّكون بأن يتصرّفوا على قاعدة أن الإنسان الفلسطينيّ يخضع لمعايير قيميّة وحقوقيّة غير تلك التي يجري تطبيقها على الإنسان الغربيّ ومن ضمنه مستوطنو الكيان. فالطفل هنا وهناك ليس واحداً، والقتل هنا وهناك ليس واحداً، والأسر هنا وهناك ليس واحداً. هؤلاء بعنادهم على المعيار العنصريّ، وتمسّكهم بمفهوم التجريم الجاهز تحت عنوان بائد هو العداء للسامية، يتحمّلون مسؤوليّة مثل هذه الحوادث، ومسؤوليّة ما تبشّر به من مخاطر قد تجتاح العالم كله، بتفجير غضب عابر للمدن والدول ناتج عن الشعور بالعجز، والشعور باليأس من جدوى الصراخ، لأن أصحاب القرار لا يريدون أن يسمعوا بل لا مشكلة لديهم بتصنيف الصراخ الإنسانيّ بتهم الإرهاب والعداء للسامية أيضاً.
قادة الغرب مدعوّون للتذكّر أن حقبة السبعينيّات حفلت بالاضطراب الأمنيّ الذي يسمّونه بالحوادث الإرهابيّة من خطف الطائرات إلى تفجير بعض الأماكن واغتيال بعض الشخصيّات، وهي في كثير منها كانت نتاج هذا النوع من الغضب اليائس الذي أقفلت وسُدّت أمامه كل الأبواب، ومن المهم التذكير أنّه عندما بدا أن هناك بارقة أمل أمام حلول سياسيّة للقضية الفلسطينية، وأن هناك مساحة للنضال السياسيّ والمسلح والمقاومة على أرض فلسطين تراجعت كل هذه الحوادث، وأنّها كانت في ما مضى شيئاً مختلفاً عن تفجيرات وأعمال تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، وهي عندما تطلّ برأسها مجدداً تبقى مختلفة أيضاً، فهي صراخ بأدوات أقوى على أمل فرصة السماع، ومقابلة هذا الصراخ بالإنكار والمكابرة لن تؤدي إلا لزيادة قوة هذا النوع من الصراخ واتساع مداه ومساحته.
الصادقون الذين لا يريدون رؤية هذه المشاهد تعمّ المدن والدول، يعرفون الطريق، وهو المسارعة في إظهار أن هناك مؤسسات دوليّة تشتغل وقانوناً دولياً يُحترم، وأن هناك مَن يأخذ الجلاد على يده ويُنصف الضحيّة، وأن المذبحة توقفت، وأن البحث عن حلول تُنصف الفلسطينيين وتفتح لهم أبواب الأمل، وأن مقاومتهم الشريفة لا تُعامَل كتنظيم إرهابيّ، عندها وعندها فقط سوف تنطفئ جذوة الغضب ويحلّ الأمل مكان اليأس ويتراجع هذا الخطر الداهم، الذي يُهدّد العالم بفوضى لا مثيل لها. و يختلط فيها الحابل بالنابل والصالح بالطالح.