اخبار تونس
موقع كل يوم -جريدة الشروق التونسية
نشر بتاريخ: ١٧ تموز ٢٠٢٥
في إطار الدورة التاسعة والخمسين من مهرجان الحمامات الدولي، الذي انطلق يوم 11 جويلية ويتواصل إلى غاية 13 أوت 2025، تابع جمهور الفن الرابع في سهرة الأربعاء 16 جويلية عرضا مسرحيا حمل عنوان 'أم البلدان' وهي شراكة فنية بين الكاتب الكبير عز الدين المدني والمخرج حافظ خليفة في ثالث تعاون بينهما بعد 'رسائل الحرية' و'عزيزة عثمانة'.
وهذه المسرحية هي من إنتاج شركة فرقة فن الضفتين، وتتناول فترة حكم مؤسس الدولة الحفصية أبو زكرياء الحفصي في القرن الثالث عشر، مقدّمة تونس كأرض الحضارات وراعية للعدالة والابتكار. وأدى الأدوار نخبة من الممثلين الكبار هم محمد توفيق الخلفاوي وعزيزة بولبيار وجلال الدين السعدي ونور الدين العياري وعبد الرحمان محمود وجميلة كامارا وعبد اللطيف بوعلاق، إلى جانب مجموعة من الممثلين الشبان هم شهاب شبيل وكمال زهيو وآدم الجبالي وعبد القادر الدريدي ونزهة حسني وشيماء الصماري وعبير صميدي ومجدي محجوبي وفاطمة الزهراء المرواني وسيف الدين الوجيهي ومحمد يوسف بن عزيز.
وجاء هذا العمل ثريا ومتنوعا من حيث الخصائص الفنية المميزة له، إذ اعتمد نص المسرحية الذي صدر في نسخة مطولة عن بيت الحكمة، على لحظة تأسيس الدولة الحفصية بوصفها خلفية رمزية تسائل الحاضر وتضعه في مرآة الماضي. فقد استُحضرت شخصية أبي زكرياء يحيى الحفصي كرمز لبناء الدولة والعدل والحكم الرشيد. وفي المقابل يضع الكاتب المتلقي أمام شخصية ابنه المستنصر بالله الذي مثّل لحظة الانهيار والانحراف عن المبادئ، وهو تقابل درامي يطرح تساؤلات جوهرية حول السلطة وتحوّلاتها ومآلاتها.
نص كثيف ومشحون بالدلالات
وجاء النص مشدود الإيقاع ومحكم البنية تتخلله لغة عربية فصحى دقيقة وجميلة دون أن تغيب عنه لمسات من الدارجة التونسية في بعض المواضع لإضفاء القرب والحميمية وكسر الجديّة العالية أحيانا وإراحة المتفرج من عناء تتابع الأحداث. كما تميز الحوار بثرائه وكثافته الدلالية وتعدّد مستوياته التأويلية ما جعله يحتمل القراءة الرمزية والتاريخية والسياسية في آن واحد دون أن يفقد طابعه الفني والدرامي.
وقد عُرض النص في شكل مكثف على الركح بعد أن اضطر فريق العمل إلى اختزاله بسبب طوله الزمني الذي يتجاوز في صيغته الكاملة أربع ساعات، إلا أن هذا التكثيف لم يأت على حساب المضمون بل احتفظ العرض بجوهره التعبيري ورسائله الفكرية بل وببصمته التونسية الواضحة سواء على مستوى الكوريغرافيا أو الموسيقى أو التشكيل البصري.
وقد برزت في العرض بشكل لافت الرؤية الإخراجية المعاصرة التي قدمها حافظ خليفة الذي اعتمد السينوغرافيا الرقمية المتحرّكة أو ما يطلق عليها تقنية 'المابينغ' مما أضفى على العرض بعدا بصريا جماليا وخلق تماهيا تاما بين الصورة والمحتوى. كما تم توظيف الرقصات الرمزية مثل رقصة التنورة و السطمبالي في مشاهد جماعية وفردية أضافت بعدا فنتازيا روحيا، فيما جاءت الموسيقى التصويرية المصاحبة الحية للفنان إبراهيم البهلول عنصرا أساسيا في بناء اللحظة الدرامية وتعميق التفاعل الوجداني لدى الجمهور.
ومن العناصر اللافتة أيضا في العرض ما شهدته السينوغرافيا من استحضار لرموز تراثية تونسية أصيلة كأبواب المدينة العتيقة وجامع القصبة وباب البنات وهي خلفيات شكلت بعدا رمزيا يذكّر بالجذور والهوية في حين صُمّمت الملابس بعناية لتعكس فخامة العصر الحفصي وتساهم في ترسيخ الطابع الرمزي للشخصيات وجعلها تنطق بما هو أكثر من دورها الظاهري.
جدلية الماضي والحاضر
واندمجت كل هذه المكونات في نسق تعبيري واحد جعل من 'أم البلدان' عرضا متكاملا أداء وتعبيرا وصوتا وصورة وشكلا ومضمونا، لينخرط في مساءلة كبرى للواقع الراهن التونسي من خلال ربط جدلي بين الماضي والحاضر والسعي إلى تفكيك مفهوم الدولة بوصفها مشروعا لا يُبنى مرة واحدة وإنما يحتاج إلى إعادة تأسيس دائمة.
وانطلاقا من الخصائص الفنية المميزة لهذا العرض، حاول كاتب النص والمخرج من خلال شخصية أبي زكرياء الحفصي إثارة عديد القضايا الجوهرية وفي مقدمتها مفهوم السلطة وعلاقة الدولة بالمجتمع وتحوّلات الحكم بين التأسيس والانهيار. وقد مثّلت الدولة الحفصية، مثلما تظهر في العرض، لحظة مفصلية في تاريخ تونس حيث طرحت لأول مرة بشكل واضح ومباشر أسئلة العدل والإنصاف والحكم الرشيد. غير أن المسرحية لم تكتف بعرض هذه اللحظة وإنما ذهبت أبعد من ذلك لتقابلها بشخصية المستنصر بالله بوصفها تعبيرا عن الوجه النقيض للسلطة حين تنحرف عن جوهرها وتتحول إلى أداة فساد وترف وتدمير ذاتي. وبهذا تصبح المسرحية تساؤلا مفتوحا عن معنى الدولة وأسس قيامها وحدود سقوطها وإلى أي مدى يمكن أن تؤثر القيادة في مصير أمة بأكملها.
نقد الارتهان للخارج
وفي هذا السياق، تبرز بقوّة جدلية الماضي والحاضر التي شكّلت أحد محاور العرض الأساسية، إذ لم يكن التاريخ في المسرحية هدفا في حد ذاته وإنما بدا وسيلة لكشف ما يشبهه في الحاضر والتفطن إلى ما يعاد ارتكابه من أخطاء سياسية وانقسامات وتحولات عبثية، وفي ذلك إشارة تكاد تكون مباشرة إلى الوضع السياسي الذي عرفته تونس خلال العشرية التي تلت ثورة 17 ديسمبر 2010 وما شهدته من صراعات سياسية وأعمال إرهابية واستقواء بدول أجنبية وركود اقتصادي واجتماعي كاد يؤدي إلى انهيار الدولة. فالنص المسرحي يربط في انسياب فني وفكري بين صراعات الأمس وأزمات اليوم ليطرح بجرأة أسئلة ملحة هل نحن بصدد تكرار المأساة نفسها ولكن بأقنعة مختلفة؟ وهل تملك المجتمعات فعلا أدوات كافية لفهم تاريخها وتجنب فخ إعادة إنتاجه؟
ومن هذه الزاوية، تتخذ الهوية بعدا مركزيا في العرض باعتبارها قضية وجودية تستحق التأمل. فقد أكدت المسرحية، من خلال نصّها ورموزها البصرية على رمزية تونس بوصفها 'أمّ البلدان' أي أنها فضاء للخصوبة التاريخية والصمود الحضاري والتجذر في الذاكرة. لقد حضرت رموز التراث المعماري واللباس والموسيقى لتذكّر بأن الانتماء يُبنى على وعي نقدي يعلي من شأن الهوية الحضارية ويجعل منها عنصر مقاومة ثقافية في وجه التقلبات والتهديدات.
ولعل أبرز ما طُرح في العرض من خلال التمشي السردي والتجسيد الدرامي هو التحذير من الانحراف عن قيم الحكم الرشيد. فقد شكّلت شخصية المستنصر بالله تمثيلا دراميا لهذا الانحراف، حيث ظهر الحاكم في لحظة تراخي الدولة لينتهي الأمر بتفكك البنيان الذي أسسه من سبقه. وفي هذا المستوى تدعو المسرحية إلى مراجعة جماعية لأسباب الانهيارات المتكررة التي عرفها التاريخ السياسي في تونس وفي المنطقة العربية برمّتها.
أما القضايا السياسية المعاصرة، فقد حضرت بقوة في النص من خلال طرح إشكالية غياب الثقافة الديمقراطية في المجتمعات التي لم تعرف هذا النمط من الحكم إلا في فترات قصيرة ومتوترة. وقد بدا واضحا من خلال الخطاب المسرحي أن الديمقراطية ليست مجرد آلية انتخاب وحدها وإنما تتعدى ذلك بكثير لتصبح ثقافة تقتضي الوعي والنضج السياسي والانخراط الفعلي في الشأن العام. كما لم تغفل المسرحية عن نقد الارتهان إلى الخارج والاعتماد على قوى أجنبية لتحديد مصير البلاد في وقت يفترض أن يبنى القرار السياسي على السيادة والشرعية الشعبية.
'أم البلدان': عرض عن تونس أولا
وقد عبّر المخرج حافظ خليفة، خلال الندوة الصحفية التي انعقدت بعد العرض، عن فخره بهذه التجربة التي وصفها بأنها استمرار لمسيرته المسرحية وارتباطه الرمزي بمدينة الحمامات. وأضاف أن هذا العمل هو ثالث تعاون له مع الأستاذ الكبير عز الدين المدني الذي وصفه بأنه رجل ملهم وعاشق لتونس ودارس لتاريخها ومنه يستعير الماضي ليتحدث عن الحاضر وكأنه يستشرف المستقبل.
وعن هذا العمل 'أم البلدان'، أفاد أن ما وقع في زمن أبي زكرياء الحفصي من تأسيس للدولة يعيدنا اليوم إلى ما نعيشه من نقاش حول عودة الدولة وهيبتها في ظل التمزق السياسي وكيف يمكن لتونس أن تنهض مجددا مثلما فعلت سابقا. وبيّن أن النص الذي كتبه المدني يتضمن أكثر من 120 شخصية، وأنه تم الاشتغال على اختزاله ضمن رؤية إخراجية تسعى إلى تحقيق التوازن بين البعد الفكري والبعد الفرجوي، مع التأكيد على الخصوصية التونسية في الموسيقى والحركة دون أن يقع العرض في الابتذال أو الاستسهال.
من جانبه، عبّر الكاتب عز الدين المدني عن اعتزازه بالتجربة قائلا: 'كتبت أكثر من أربعين مسرحية وعملت مع عدة مخرجين كبار لكن هذه التجربة لها طابع خاص لأنها تتعلّق بتونس'. وأكد أن المسرحية ليست عرضا تاريخيا بالمعنى السردي وإنما هي استحضار للتاريخ كمرآة للحاضر. كما أشار إلى العمل يتحدث عن الحاضر من خلال الماضي ويتناول الواقع بأسلوب فني وهو لا يخلو من الخيال وإنما يتعمّد توظيف الأسطورة والأسلوب الرمزي لتوسيع دائرة التأويل. وأكد المدني أن شخصية أبي زكرياء الحفصي في المسرحية تجسّد نموذج الحاكم العادل الذي أكرم المرأة ودافع عن الهوية.
وتتواصل نبضات الدورة 59 لمهرجان الحمامات الدولي، حيث يتجدد الموعد مع الموسيقى هذه الليلة 17 جويلية في سهرة تونسية مشتركة تجمع بين الثنائي 'جذب' والفنانة 'سوداني'. ويقدم 'جذب' مشروعه الموسيقي 'Willia' الذي يمزج بين التصوف والإيقاعات الإلكترونية بهدف خلق تجربة روحية وإنسانية عابرة للثقافات. أما 'سوداني'، فتميزت بأسلوبها الحر والجريء الذي يمزج البوب والديسكو بالإيقاعات التونسية وتعمل على ألبومها الأول المعبر عن هويتها الفنية والأنثوية.