اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٢ تشرين الأول ٢٠٢٥
د. تركي فيصل الرشيد
لا تخلو دولة بهذا العالم من وجود الفقراء بما في ذلك منطقتنا الخليجية، وعلى عاتق الحكومات يقع إيجاد الحلول لهذه المعضلة، خاصة إذا ما توفرت الإمكانات، وهنا تبرز أهمية دقة البيانات وضرورة توافرها كسلاح فعال بيد الحكومات في حربها ضد الفقر والجوع وإحداث تحول في حياة الفقراء، كون هذه البيانات توفر فرصاً هائلة لدى الحكومات للحصول على تصورات وأفكار مبتكرة لصنع القرار وتحسين البرامج والسياسات وتحفيز الاقتصاد وتمكين المواطنين.
غير أن المعضلة التي تواجه العديد من المجتمعات لا أقول العربية فقط، بل وعالمياً أيضاً والتي نجحت السعودية في تجاوزها تكمن في تسييس البيانات المتعلقة بالفقر والجوع وتفاوت الدخل، بما يمثل عقبة رئيسة أمام تحقيق التنمية المستدامة والقضاء على مثل هذه الظواهر، ومن مظاهر هذا التسييس استخدام السلطة السياسية بكثير من البلدان نفوذها للتأثير على جمع البيانات وتفسيرها أو نشرها، مما يؤدي إلى تحريف الواقع وتأخير تنفيذ الإصلاحات الفعالة.
في منطقتنا العربية والإسلامية وبالعديد من دولها أدت العوامل السياسية إلى تحيزات في معالجة البيانات، فمثلاً في مصر ارتفع معدل الفقر من 19.5% في 2005 إلى 28% في 2015 حيث أدى ارتفاع الأسعار وانخفاض الوصول إلى الغذاء والكهرباء إلى تفاقم الفقر، وسط اعتماد غير مسبوق على الديون الخارجية، وفي اليمن، بلغ الفقر متعدد الأبعاد 83% في 2024، مع أكثر من ثمانية من كل عشرة أشخاص يعانون من الحرمان، ويرتبط ذلك بالصراع السياسي الذي يعوق جمع البيانات الدقيقة ويؤدي إلى تقديرات متضاربة، أما في سوريا فقد ارتفع الفقر إلى 80% بسبب الحرب الأهلية، حيث أدى الاضطراب السياسي إلى إعادة توجيه الأولويات بعيداً عن الاحتياجات الإنسانية، ما عكس تسييساً للإحصاءات لتجنب الاعتراف بالفشل الحكومي.
وفي السياق الأوسع وبالنظر إلى الدول الإسلامية غير العربية، فدولة كباكستان - مثالاً - يرتبط التلاعب بالبيانات الاقتصادية فيها بانخفاض قيمة العملة وارتفاع عدم المساواة في الدخل، حيث أدت السياسات الاقتصادية والسياسية إلى تفاقم الفجوات، مع دراسات تشير إلى دور الفساد في تسريع عدم المساواة، بينما في إندونيسيا تمتد عدم المساواة إلى ما وراء الدخل لتشمل الوصول إلى التعليم، مع تقارير عالمية تؤكد أن التسييس يعوق التحول الاجتماعي بها من خلال تحيزات في البيانات، أما في تركيا فقد تم الكشف عن خطط حكومية لتزييف بيانات الاستخبارات المالية لمعاقبة الصحفيين المنفيين، ما يعكس تسييساً أوسع للإحصاءات الاقتصادية لأغراض سياسية.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن التلاعب بالبيانات وإخفاءها ليس مقتصرًا على الأنظمة العسكرية الاستبدادية أو مناطق الصراع أو بمنطقتنا العربية والإسلامية فقط بل إنه ينتشر بشكل متزايد حتى في الدول الرائدة في الدفاع عن حرية التعبير والوصول إلى المعلومات، فما إن تتعرض المصالح السياسية للتهديد حتى يتغير الموقف جذريًا، كما يتضح ذلك في بريطانيا والولايات المتحدة كمثالين.
ففي الولايات المتحدة، أعلنت إدارة ترمب في سبتمبر 2025 إنهاء الاستطلاع السنوي الشهير لوزارة الزراعة الأمريكية (USDA) حول الأمن الغذائي، مما يُخفي اتجاهات الجوع وتأثيرات خفض المساعدات على الفقر والبطالة، ووصفت الإدارة الاستطلاع بأنه 'متكرر' و'سياسي'، بينما في الحقيقة يُعتبر هذا الاستطلاع أداة أساسية لقياس الاحتياجات الوطنية، أما في بريطانيا فقد أثار رئيس الوزراء السابق غوردون براون الضجة هذا العام بوصفه أزمة الفقر المدقع لدى الأطفال ببلاده، عبر صور حية لطاولات مطابخ خالية من الطعام وغرف نوم بدون أسرّة مع منازل تفتقر إلى التدفئة والأدوات الأساسية وحتى الصابون، مما يكشف كيف يدفع التقشف الملايين إلى معاناة صامتة، حتى إن الحكومة حاولت فرض الصمت عبر إشعارات D، التي تُستخدم عادة لتقييد النشر حفاظًا على الأمن القومي، غير أنها لم تستطع إخفاء هذه الأزمة الاجتماعية الملحة، ولعل هذه مجرد أمثلة تثبت أن التسييس ليس مصادفة، بل إنه آلية متعمدة تعرقل التقدم نحو معالجة هذه الأزمة حتى على المستوى العالمي.
هنا تتبدى التجربة السعودية لمعالجة هذه الظاهرة ودعم ذوي الدخل المنخفض والمحدود كتجربة ناجحة تستحق الإشادة من خلال برنامج 'حساب المواطن' الذي يُعد مثالاً بارزاً على كيفية استخدام البرامج الاجتماعية للتعامل مع آثار الإصلاحات الاقتصادية، مثل رفع الدعم عن الطاقة في 2017 وتغيير تعرفة الكهرباء وتطبيق ضريبة القيمة المضافة بحيث يصل الدعم النقدي إلى مستحقيه بعيداً عن الدعم التقليدي الذي يستفيد منه ذوو الدخل المرتفع والمنخفض على السواء، وقد أُطلق هذا البرنامج في ديسمبر 2017 كجزء من برنامج التوازن المالي ضمن رؤية 2030، ليوفر دعماً نقدياً شهرياً للأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط، حيث سجل أكثر من 3.7 ملايين أسرة (نحو 13 مليون شخص) في البداية، ويغطي اليوم نحو 10 ملايين مستفيد.
يعتمد البرنامج على بيانات الدخل الإجمالي للأسرة، مع حاسبة تقديرية لتحديد الاستحقاق، وتم تمديد العمل ببرنامج حساب المواطن مع الاستمرار في تقديم الدعم الإضافي لمستفيدي برنامج حساب المواطن حتى نهاية العام 2025م، إلى جانب استمرار فتح التسجيل في البرنامج، مع دعم إضافي لمواجهة التضخم، خاصة في الأحياء الفقيرة بالمناطق، وفي هذا اعتراف بالمشكلة وهذا أولى خطوات الحل مع الاعتراف بوجود بعض التحديات والسعي إلى تداركها عبر زيادة تدقيق البيانات والكشف عن الإحصاءات والأرقام بدقة، وربطها بمدى جدية المستفيد في التأهيل والتدريب من أجل التوظيف وإلزامه بإلحاق أطفاله بالتعليم وحصولهم على التطعيمات الضرورية وغيرها من أوجه تحسين حياة هذه الفئة.
ومن إيجابيات البرنامج مساهمته في توزيع أكثر من 100 مليار ريال منذ إطلاقه، مما ساعد في تخفيف آثار الإصلاحات، غير أن هناك العديد من التحديات المتعلقة بتعزيز شفافية البيانات والاستدامة والاستجابة بالبرنامج، إلى جانب بعض الشكاوى المتكررة كرفض الطلب نتيجة عدم اكتمال البيانات أو إيقاف الأهلية المفاجئ وكذلك تأخر وعدم وصول الدفعات فضلاً عن عدم وضوح قيمة الاستحقاق، إلا أنه مع تحديث البرنامج فترة بعد أخرى والوقوف على المشكلات وحلها تتجلى أهميته ودوره الجدير بالدعم والإشادة.
وختاماً، في الوقت الذي يقترب فيه الاحتفال بمرور عشر سنوات على تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز قيادة المملكة وانطلاق برنامج التحول الوطني ورؤية 2030، تبرز الحاجة إلى رؤية أكاديمية تحلل إنجازات هذه المرحلة بلغة مبسطة وشيقة، تجمع بين العمق العلمي والوصول إلى الجمهور العريض، فقد حققت الرؤية، خلال تسع سنوات فقط، نحو 93% من أهدافها الرئيسية، من خلال تنفيذ 674 مبادرة تنموية، وتجاوز هدف الـ100 مليون سائح، بالإضافة إلى تسجيل 8 مواقع سعودية في قائمة التراث العالمي لليونسكو، وانخفاض معدلات البطالة مع تعزيز مشاركة المرأة في سوق العمل بنسبة تصل إلى ضعف ما كانت عليه قبل الرؤية.
إننا نعيش فترةً انتقالية جيوسياسية وجيواقتصادية نحتاج خلالها الى إبراز التجربة السعودية لتضيف الى الثقافة الجغرافية للمنطقة خاصة وللعالم أجمع، لذلك فالجهات الحكومية باعتقادي مدعوة إلى ضرورة توفير بيانات دقيقة حول هذه الإنجازات، مع عرضها في تقارير أكاديمية بلغة واضحة وجذابة، تعتمد على الرسوم البيانية والأمثلة الحية لتسهيل الفهم، كما أقترح على الجامعات والمعاهد العلمية تنظيم سلسلة من الندوات والمؤتمرات الافتراضية والحضورية، تركز على تقييم الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي تمت خلال العقد الماضي، مع دعوة خبراء دوليين لإثراء النقاش.
وبالنسبة للمؤثرين والمختصين في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، فإنني أحثهم على التركيز على لغة الإنجاز الملموس، والمدعومة بأدلة إحصائية وشهادات ميدانية، لتعزيز الثقة العامة بمسار الرؤية.
وبهذا النهج لا نكتفي بالاحتفاء فقط، بل نبني جسرًا علميًا يعبر بالرؤية نحو مستقبل أكثر تنميةً واستدامة، حيث يصبح الإنجاز ليس مجرد رقم، بل قصة نجاح مشتركة تشكل هوية الأجيال القادمة.