عندما تتحول مخاوفك إلى شر ينهش روحك في حلقة مفرغة من اللعنة!

* د.أحمد مجدي ناقد وعضو هيئة تدريس بقسم الدراما والنقد المسرحي بكلية الآداب جامعة عين شمس

فيلم 'شرير أو وحشي Vicious' للمخرج 'رايان بيرتينو Ryan Bertino' ليس مجرد فيلم رعب تقليدي يظهر فيه كيان شيطاني شرير يقتفي أثر الشخصيات ويحاول القضاء عليهم، ولكنه فيلم رعب نفسي يستكشف كيف تتحول الصدمات النفسية وأزمة الشعور بالذنب والوجود إلى وقود يغذي جميع الكيانات الشريرة حتى تظهر في حياتنا وتتحكم فينا وتقود مصائرنا، فالفيلم لا يناقش وجود القوى الخارقة والمخيفة بشكل مباشر، ولكنه يُجسد استعارة للتداع الإنساني والانشقاق النفسي الذي يؤدي إلى تدمير الذات، في وسط عالم يتغلف بالعزلة والجروح النفسية التي لا تلتئم أبدًا، وشعور الندم الذي يطالنا ويجعل كل ما هو شرير يتسرب إلى عالمنا، قبل أن يشق طريقه ويلتف حولنا ويصبح لعنة متسلسلة تصيب كل الضعفاء والمُحطمين نفسيًا.

تعيش بولي (داكوتا فانينغ) في منزل قديم متهالك ومدمر، تمامًا كما هي حالتها النفسية التي تظهر لنا في حالة يرثى لها، كما لو أنها مُحطمة من الداخل وتعيش في عزلة لا نهائية، وهو ما ينعكس على تفاصيل منزلها القديم، حيث نرى نباتاتها المنزلية تموت في صمت لعدم اعتناء بولي بها، نسمع بعدها بعض الرسائل المسجلة على هاتفها، حيث تحاول أمها الوصول إليها لتذكيرها بشراء كعكة للاحتفال بعيد ميلاد بنت شقيقتها 'آلي'، وذلك بنبرة مليئة بالاستياء والعتاب، بينما يحاول الآخرون الوصول إليها لكي تحضر حصص صناعة الخزف والفخار مدفوعة الثمن التي اشتركت بها، ولكنها لم تعيرها أي اهتمام ولم تكلف نفسها عناء الذهاب إليها. كانت بولي في السابق طالبة ذات دخل مرتفع وفنانة واعدة، لكنها الآن امرأة بالغة تعيش حياة بائسة، تعمل في وظيفة مملة، ولا تحضر دروس الفخار التي دفعت ثمنها، وتستمر في تعزيز شعور عائلتها بخيبة الأمل فيها من تصرفاتها الحمقاء.

وفي ليلة شتوية كئيبة، تطرق امرأة عجوز (كاثرين هانتر) بابها، تتوسل للحصول على كوب من الماء، وذلك حتى تدخل إلى المنزل، وسرعان ما كان يبدو عملًا طيبًا من بولي التي تود مساعدة المرأة، يتحول إلى ليلة كارثية حيث يبدو أن المرأة دخلت المنزل عن قصد حتى تنجز مهمة معينة. تركت المرأة وراءها صندوقًا أسود صغيرًا وساعة رملية، محذرة بولي من أنها ستموت ما لم تلعب اللعبة مع الصندوق الغامض. وتبدو كلماتها الأخيرة، 'أنا آسفة أنني نقلت لك هذا' قد تحولت إلى لعنة واعتراف في آن واحد.

تحاول بولي التخلص من الصندوق وترميه بالخارج، لكنه بشكل ما يعود إلى المنزل مرة أخرى، لذا تقرر بولي طاعة الصندوق حتى تتخلص من اللعنة الكارثية التي حلت بها. إن قواعد الصندوق بسيطة ولكنها مرعبة، حيث تستقبل بولي مكالمات من أشخاص غامضين يبدو أنهم يمثلون تجسيدًا للأرواح الشريرة الموجودة داخل الصندوق، حيث يطلبون من بولي أن تضع في الصندوق شيء تكرهه وشيء تحتاجه وشيء تحبه، كما يبدو أن هذه الطلبات ما هي إلا قرابين، تفسر بولي في البداية الأمر بشكل خاطئ حيث تضع علبة السجائر الخاصة بها داخل الصندوق ظنًا منها أن ذلك هو الشيء الذي تكرهه، لكن الصندوق يرفضه، ويطلب شيئًا آخر تكرهه بالفعل، وهنا نكتشف أن بولي لا تكره شرب السجائر، ولكنها كانت تكره نظرة الآخرين لها عندما كانوا يوبخونها بسبب شرهها في تناول السجائر، وهنا تكتشف أنها لا تكره السجائر في حد ذاتها، وإنما كانت تحاول التأقلم فقط مع رغبة من حولها، ولذلك يرفض الصندوق علبة السجائر، حيث أن الصندوق يتغذى على الصدق ويواجه الشخص بمخاوفه الحقيقية، ويود أن تقدم له بولي شيء تكرهه بالفعل، ويقبع داخل نفسها المحطمة.

تكتشف بولي القربان الحقيقي التي سوف تقدمه وكانت تخفيه عن الجميع، حيث تفتح خزانتها المغلقة وتبحث عن صور والدها الذي مات منذ سنوات بمرض خبيث، وأثناء بحثها بين الصور تجد سلسلة ذهبية عليها علامة الصليب، وحينها نعرف أن بولي قد تضرعت إلى الرب مئات المرات حتى يشفي والدها ويرحمه من العذاب دون جدوى، حتى فقدت إيمانها في نفس اللحظة التي مات والدها فيها، ومن وقتها أصبحت الرموز الإلهية مكروهة في حياة بولي، لذلك تضع بولي السلسلة داخل الصندوق، فيُقبل القربان هذه المرة، حيث يكشف هذا القربان عن كيف يجبر الصندوق ضحاياه على مواجهة الألم الدفين المستتر داخلهم، وهنا تتلاشى الحدود الفاصلة بين الألم النفسي الدفين داخل بولي، واللعبة التي يقوم بها الصندوق فيها بمكاشفة بولي بأدق أسرارها، وكأن الصندوق قد تحول هنا إلى صندوق أسود لخفايا وبواطن الشخصيات.

يزداد الأمر تعقيدًا عندما يطلب الصندوق شيئًا تحتاجه بولي، وإلا سوف يقوم بشكل ما بقتل شقيقتها وبنت شقيقتها التي تحبها بولي كثيرًا، ويظهر التهديد في شكل هلاوس متجسدة داخل تلفاز بولي حيث ترى بنت شقيقتها يغمرها الدماء وكأنها تحتضر إذا لم تقدم بولي القربان المطلوب، ترى بولي بعدها نسخة شبحية من نفسها خلف المرآة، ترفع هذه النسخة يداها أمام وجه بولي، فيظهر إصبعها مبتورًا بوضوح ، فتفسر بولي الأمر أن الصندوق يريد منها أن تقطع إصبعها مثل نسختها، وبعد معاناة شديدة تقطع بولي أصبعها وتضعه داخل الصندوق، ويُقبل القربان الثاني منها.

يدفع القربان الثالث والأخير (شيء تحبه) بولي إلى حافة الجنون، حيث تشير أصوات الصندوق الهامسة إلى 'آلي'، ابنة شقيقتها الحبيبة. وفي رؤى مرعبة، ترى بولي 'ليني' شقيقتها و'آلي' ابنتها ميتتين، وتحاول ايقاظهما دون جدوى، قبل أن تقوم بمحاولة أخيرة وهي قص خصلة من شعر 'آلي' حتى تضعها داخل الصندوق؛ وذلك حتى تقدم القربان الثالث (أكثر شيء تحبه) تستيقظ في منزل شقيقتها بعدها، لتجدهما على قيد الحياة. لم ينتهِ الكابوس عند هذه اللحظة حيث ما يزال المؤقِت داخل الساعة الرملية لا يتوقف.

تحاول بولي تمرير الصندوق إلى شخص آخر كيفما فعلت معها المرأة العجوز، لذلك تتوجه إلى منزل في نفس الشارع فتفتح لها مرأة غريبة تدعى تارا، وتدعوها إلى الدخول، فتقوم بولي بفتح الصندوق في الداخل وتتوسل لتارا أن تقبل الصندوق، ولكن تارا تقوم بطردها من المنزل وهي مرعوبة، تتوجه بولي إلى منزلها وهناك تتفاجئ بوجود العجوز وهي مشوهة وفي حالة يرثى لها داخل المنزل، وبعدها تحاول قتل بولي، حيث تعتذر العجوز وتتأسف على ذلك قائلة أن لا أحد يتمكن من تمرير اللعنة، وهنا تكشف الحقيقة المروعة أن الصندوق هو من يختار ضحاياه، المنكسرين والمحطمين داخل العالم.

في صراع عنيف، تقتل بولي المرأة العجوز دفاعًا عن نفسها لنكتشف قبل موتها بلحظات أن السيدة العجوز أيضًا كانت منعزلة ومحطمة مثل بولي، وإن اختيارهما لم يكن عشوائيًا، حيث كانت المرأتان عالقتين في ظروف مشابهة، وفي اللحظة التي تُقرر فيها بولي عدم استكمال اللعبة، عدم إيذاء نفسها، عدم إيذاء أي شخص، ينتهي وقت الساعة الرملية، تتوقع الموت، لكن بدلًا من ذلك، لا يحدث شيء، تستيقظ بولي في اليوم التالي، وترفض الإجابة على الهاتف وعلى الأرواح الشيطانية، وتذهب إلى شقيقتها وبنت شقيقتها لتجدهما في صحة جيدة، فتقرر أنها سوف تستكمل حياتها معهما دون خوف أو عزلة، وهنا تفقد اللعنة قوتها في اللحظة التي تتوقف فيها عن تغذيتها بمخاوفها وضعفها وطاعتها العمياء، حيث يحاول صناع العمل هنا اظهار معنى فلسفي وهو؛ أن كل ما حدث أو يحدث لبولي كان على الأرجح نابعًا من عزلتها وخوفها وعدم إيمانها وشعورها بالذنب، وأنه لا يوجد روح شيطانية أو صندوق شيطاني في حياتنا سوا أنفسنا ومخاوفنا التي من المفترض أن نواجهها طول الوقت، مثلما فعلت بولي في نهاية الأحداث بعد التجربة المروعة، فهي استراحة محارب يستعد لمعارك أخرى مع الشيطان الذي يقبع داخله.

وتحدث المفاجأة في آخر مشهد عندما نرى تارا (المرأة الغريبة التي ذهبت إليها بولي لتهديها الصندوق) في منزلها وأمامها الصندوق، بعد أن قامت بقطع أصبعها أيضًا كيفما فعلت بولي، وقتلت والديها، تمسك تارا الصندوق بقوة وتطيعه، ليبدو أن الصندوق قد حصل على ضحية مُحطمة جديدة، ليُملي عليها شروطه وقوانينه ولعبته... نكتشف في النهاية أن اللعنة تتكيف، وتتغذى باستمرار على يأس الضحايا الجدد ويظل الإنسان في حلقة مفرغة من الانصياع التام لشيطان مخاوفه وانعزاله وانقسامه النفسي وهشاشة روحه، حيث لا مفر من اللعنة واللعبة.