اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٧ تشرين الثاني ٢٠٢٥
د. حسان صبحي حسان*
كونه وسيلة للتأمل والفهم العميق للحياة والوجود، ودافعية لفحص أفكار الفنان وتصوراته عن الحقيقة، يشير'إيف بونُفوا' إلى أن بعض الفنانين لا يؤمنون إلا بالنظر ويكتفون بتقليد الطبيعة وتناول جوانب سطحية من العالم ويتباطؤون في تحليل ما يرونه، بينما يأتي 'الحقيقيون' ليغوصوا بهدف تلمس الجوهر الحقيقي وتصدير تفسيرهم الخاص للعالم الذي يعبر عن القضايا العميقة والمجتمعية والروحانية بطرق مؤثرة تخلق أعمال فنية تعكس نظرة أعمق وأكثر شخصية لذلك العالم وتجسد جوهره عبر اجترار المتلقي إلى 'وقت ومكان مختلف' يسمح لنا باكتساب منظور وفهم تاريخي من خلال استفزاز الفكر والتأمل والمناقشة.
فالفن هو مفهوم شامل للوجود الإنساني، ولغة اتصال وتخاطب لتوصيل الداخلية والرؤية الخاصة بالفنان، والتي نحتت كنتاج لعلاقة (الفنان والتأمل البيئي) وإعادة تقييم العلاقة بالطبيعة والنظر إلى الأشياء داخل ذلك المجتمع، واسترداف ذاكرة البيئة (ليصبح الفن بمثابة الذاكرة الجماعية للمجتمع) والمحفز الفكري الذي يستقي منه الفنان طابعه وإيقاعه، ووسيلته للحفاظ على التاريخ وتخليد الأشياء والأماكن والأحداث، 'فالذاكرة' ليست سجلاً للمحفوظات وحسب وقدرة اكتساب المعلومات وتخزينها واسترجاعها فقط، بل هي المرتكز الذي يرتكل له 'الفنان والمجتمع' لبناء الفكر والمعرفة والموقف الاجتماعي (لتنبري حتمية تنشيط الفن 'بالذاكرة' والذاكرة بالفن) وتجسير العلاقة بين الماضر والمحاضر.
وفي رحاب 'أتيليه جدة' وبرعاية الناقد التشكيلي والمحرك الثقافي الأستاذ 'هشام قنديل' مدير الأتيليه، وضمن أنشطته الحيوية ومشاركة نخبة من الفنانين والنقاد، يأتي معرض (ذاكرة) في 13 نوفمبر 2025 للفنان 'عبد الرحمن المغربي' ليحمل نهجه الفني في تطوير الطرح وثقافة البحث المنهجي في الاتجاهات المعاصرة، ويكشف عن أسلوبية متفردة في معالجة الهيئة الشكلية عبر نحو عن الانبهار بالثقافة العالمية وتقليدها وتجاوز للرؤية المباشرة، ورنو من الواقع البيئي المحلي مستلهماً منه رموزه وأفكاره وعناصره وصولاً لإيقاعاته التبسيطية الاختزالية المشبعة بالعاطفة الفياضة، لتمثل أطروحاته الفنية رؤية تمتلئ بنبض عضوي ينبع من الذاكرة البيئة للفنان وترجمة لتفاصيل وذكريات يتمازج فيها (الزمان والمكان) كبُعدين متلازمين في أعماله التي احتفت بإشارات المكان والذاكرة.
ومن وجهة فلسفية ولمتطلب الفن لسرد الذاكرة الشخصية والجماعية، انبرى الفن بذلك المعني عند 'المغربي' كدرب من دروب الذاكرة ونبش في الماضي بتعزيز دعمه حرية التعبير بأشكال ووسائط حداثية مواكبة، ليرتهن العمل لتقنيات العمل المستحدثة وتحقيق الكثافة والديمومة الفنية، في تجريدية ترميزية للموروث السعودي والتراث البصري العربي لترجمة عواطفه وانطباعاته في ألوان وأشكال وكتل مقصودة لمغزاها، وشحذ معالجات وحلول ذات بلاغة تشكيلية ومثالية تشخص رموز بصرية مثل: (الكائنات الأدمية الاختزالية كالرجل والمرأة البدوية وبراقع النساء، والحيوانات الأسطورية والطيور، وكتل النباتات والنخيل كتجسيد للحياة والنماء والعطاء، والكتل الهندسية التلخيصية التي تمثل التراث العمراني الحجازي القديم والعمارة السعودية)، إضافة الي الحلول الفراغية التي تبرز طاقات الشكل وتؤكدها، في رؤية لا تفصل الفن عن المجتمع، وترى بضرورة 'التزام' الفنان بقضاياه.
فداخل أجواء شرقيه بهيجة، دائماً ما يفصح فن 'المغربي' عن أحداث وذكريات مختزنة يبحث من خلالها عن الفكرة عبر الالتقاء بالذكريات والتفاعل مع تداعيات الأحداث السابقة، وتجهيز أجواء مناخية تتدافق وتقفز من خلال ذلك الرصيد الذهني الذي استخدمه الفنان للتعبير عن ذكرياته وترجمة 'الذاكرة' واسترداف البيئة كمدخل مكاني يؤطره استخدام تأثيرات ملمسية لمعالجة سطوح الشخوص، والمزج بين الأسطح الملونة الخالصة والأخرى التنقيطية والتأثيرية والتي نتجت من خلال انفعال الفنان مع اختزال أفكاره، والتأليف بين طبقات الألوان المحايدة كالأبيض والأسود والصريحة لتشكيل مناطق الإضاءه والإعتام، لإعلاء قدرات الارتقاء والسمو للعمل وإيحائه بالحيوية والحركة متوافقاً مع الديناميكية الحركية والتعبيرية التي تبوح بها شخوصه.
فاعتمد الفنان 'عبد الرحمن المغربي' على تكثيف الدلالات البصرية لرموزه عبر اختزال الأشكال رمزياً إلى أقل عدد من الخطوط، وحذف الثانوي والاستعانة بالجزئيات التفصيلية الموحية التي تفصح عن كامل الشكل، وتقبض على اللحظة وتفصح عن خصوصية الفنان، وتطلق لعدد من الاستبشارات التنويرية والتي مهدت بدورها لإثراء المدخلات الترميزية للعمل، حيث امتلك الفنان قدرة ذهنية وبصرية هائلة على استخلاص العناصر المبسطة للأشكال، ولجأ إلى المزج بين الهندسي والعضوي من خلال الشكل المجرد لعناصره والتي استلهمها من مصادر عدة من بيئته، والتي كان يطلق مخيلته لتتجول في ذكرياتها لينتقي منها الموضوعات والعناصر والتي صاغها في (هيئات تشخيصية مبسطة ممتزجة مع أشكال هندسية خالصة مثل: الدائرة والمثلث والمربع) والتي كان يصنع منها أشكالاً بدائية كوسيلة موحية للفنان لصياغة أشكاله والوصول إلى قيم فنية ذات قدرات وطاقات جاذبة.
هذا إلى جانب عمليات الترديد والتنغيم في استخدام تلك الخطوط مع العناية بحركتها واتجاهاتها والدقة في توزيعها، والتركيز على تلك التباينات التي يصنعها تجاور تلك الخطوط مع المساحات البيضاء، والانتقال من كثافة خطية لأخرى بصورة تشكيلية واعية للغة البصرية ولمعطيات الإدراك البصري وقوانينه المركبة التي يتجاوب معها الفنان بسلاسة، حيث يترك الفنان الكثير من التفاصيل منفتحة على سطح الأرضية مما يعطي العين فرصة الاستكمال والتوصيل للثغرات. وقد استلهم الفنان ألوانه القوية من عدة مصادر، حيث واتته من شرقيته وبيئته السعودية، ومن رؤى عالم الصغار الأولية بكل ما تزخر به من نضارة وفطرية، مع استخدام تحديدات قوية عريضة نسبياً باللون الأسود والأبيض لمساحاته اللونية، والتي تعمل على إيجاد الربط والانسجام فيما بين الألوان القوية التي كان يستخدمها.
*الأستاذ بقسم التصميمات البصرية والرقمية المساعد










































