اخبار السعودية
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٩ تموز ٢٠٢٥
ترد الرياض على حكومة إسرائيلية تتقن القتل والمراوغة بلغة القانون وتخاطب الضمير الدولي بلغة الممكن
منذ قمة فاس عام 1982، حين طرح الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - أول مبادرة عربية متكاملة للسلام، لم تتعامل السعودية مع القضية الفلسطينية بوصفها ملفاً موسمياً أو ورقة ضغط، بل كمشروع سياسي ممتد، يشكل جزءاً من التزامها الأخلاقي والديني والتاريخي تجاه الشعب الفلسطيني. ومع تعاقب الأعوام وتبدل الحكومات والمواقف الإقليمية والدولية، بقيت السعودية ثابتة على مبدأ إقامة الدولة الفلسطينية ضمن حل الدولتين، لا بوصفه حلاً وسطاً، بل باعتباره الخيار الوحيد الممكن.
هذه الرؤية، التي بدت جريئة في زمن التردد العربي والمزايدات الفارغة، تتكشف اليوم عن مشروع سعودي ناضج، يتحرك بخطى محسوبة، في لحظة بالغة القسوة، تتسم بتطرف الحكومة الإسرائيلية، وذروة الدعم الأميركي، وتراجع ملف فلسطين في أجندات القوى الكبرى. وبينما اختار البعض الانسحاب من المشهد، أو الاكتفاء بالمواقف اللفظية، خاضت السعودية معركة دبلوماسية هادئة وشاقة، هدفها الأول إعادة الاعتراف بفلسطين كدولة، لا كقضية مؤجلة.
فحين رفضت إسرائيل كل المبادرات، وتعاملت مع الواقع الفلسطيني كملف أمني لا سياسي، فهمت السعودية أن الحل لا يمكن أن يكون عبر أميركا أو حتى إسرائيل، بل من خلال فرض مشروعية دولية جديدة تعيد تعريف شروط الحل... من هنا جاء التحرك السعودي خلال العامين الماضيين، الذي بلغ ذروته مع اعتراف ثلاث دول أوروبية - إسبانيا والنرويج وإيرلندا - بالدولة الفلسطينية، بدعم مباشر من السعودية، ثم بتنسيقها المباشر مع فرنسا، القوة الأوروبية الكبرى، التي أعلنت رسمياً نيتها الاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر (أيلول) المقبل.
هذه الاعترافات لم تأتِ من فراغ، بل سبقتها جولات شاقة قادها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، ووفود رسمية حملت الرؤية السعودية شرقاً وغرباً، في عواصم القرار ومراكز التأثير، ورسخت أن الوقت قد حان للانتقال من إدارة الصراع إلى الاعتراف بالحقوق. ويمثل المؤتمر الوزاري المشترك بين السعودية وفرنسا الذي يعقد في نيويورك أحد أبرز ثمار هذا الجهد، إذ سيوفر منصة دولية فاعلة لبدء مسار سياسي عملي، يتجاوز الشعارات إلى وضع العالم أمام مسؤولياته.
السؤال الذي يُطرح الآن، هل لهذا الجهد معنى ما دامت واشنطن خارج الصف؟ الإجابة ليست دبلوماسية بل واقعية، فالتحولات السياسية لا تبنى على ضوء أخضر أميركي، بل تصنع على الأرض عبر التراكم والضغط وتغيير المزاج الدولي. ومن يظن أن الدولة الفلسطينية لن تقام إلا بإذن البيت الأبيض يتجاهل كيف يُصنع القرار الأميركي نفسه، الذي يتأثر بالحراك الدولي، وبتزايد الأصوات الغربية المؤيدة للاعتراف، وبتحولات داخلية تضغط على صانع القرار الأميركي.
وإن كانت السعودية لا تراهن على الوهم، فهي كذلك لا تسلم بالاستسلام، فالرياض تدرك حجم التحديات، وأن الطريق طويل، لكنها تحاول إعادة تعريف معادلة الصراع: من قضية محصورة بين احتلال وشعب أعزل، إلى حشد سياسي ومعركة قانونية دولية حول حق شعب في تقرير مصيره وبناء مؤسساته، ومن هنا جاءت رسائل الضغط التي وجهتها السعودية للدول المترددة، مطالبة إياها بالاعتراف بفلسطين، لا كتعبير عن التضامن، بل كموقف مسؤول من أجل استقرار المنطقة.
المبادرة السعودية ليست إعلان نيات، بل مشروع قائم على أربع ركائز: اعتراف فوري وواسع بالدولة الفلسطينية ضمن حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وإصلاح السلطة الفلسطينية وتوحيد الصف الداخلي، وضمان الأمن الإقليمي لجميع الأطراف، والتمهيد لشراكة سياسية مدنية تمنح الفلسطينيين حقوقهم وتمنح الإسرائيليين ضمانات واقعية للسلام. وما يميز هذه الرؤية أنها لا تسعى إلى إرضاء أحد، ولا تنطلق من حسابات شعبوية، بل من فهم عميق لتبدلات العالم. فبعد عقود من الجمود بات كثير من صناع القرار الغربيين يرون أن استمرار الاحتلال من دون أفق سياسي يهدد أمن المنطقة والعالم، ويقوض صدقية النظام الدولي نفسه. والسعودية اليوم لا تكتفي بالتذكير بهذه الحقيقة، بل تعمل على تحويلها إلى موقف عملي، وتحشد من أجلها تحالفاً دولياً يتنامى يوماً بعد آخر.
وفي وجه حكومة إسرائيلية تتقن القتل والمراوغة، ترد السعودية بلغة القانون، وتخاطب الضمير الدولي بلغة الممكن، وتدفع العالم نحو ما ظل يؤجله، اعتراف كامل بدولة لا يمكن مواصلة تجاهلها، فالقضية الفلسطينية تعيش اليوم لحظة اختبار للشرعية الدولية، ولصدقية الدول الكبرى. والسعودية، التي تمارس هذا الدور من موقع الثقة والتأثير لا تطرح شروطاً مستحيلة، ولا تملي على أحد، لكنها تقول بصوت واضح: لا أمن ولا استقرار ولا تطبيع، من دون دولة فلسطينية مستقلة.