اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ١٢ أيلول ٢٠٢٥
د. عبدالرؤوف الخوفي
ليس الانتظار مجرّد فراغٍ في الزمن، بل إنّه زمنٌ يتّخذ فينا هيئة الفراغ. إنّه ذلك المسار الطويل والمُملّ الذي يقف فيه الإنسان بين رغبةٍ مُتّقدة وحدثٍ مؤجَّل، وبين أمل ضوءٍ يلوح في نهاية النفق، أو ألم يأسٍ مُثقلٍ بالخيبة والرتابة.
ولئن ظلّ مفهوم الانتظار مُهمّشًا في الدرس الثقافي، فإنّه في جوهره يختزن معاني عميقة تكشف عن موقع الإنسان داخل الزمن والسلطة والمعنى.
ولعلّ الثقافة لم تُنصف هذه الظاهرة بما يكفي، إذ غالبًا ما يُرمَى بالانتظار في غيابة التهميش، وكأنّه وقت ضائع لا يُنتج سوى الملل والكلل والخُسران، فأمام بابٍ بيروقراطي يتجسّد الانتظار كفعل اجتماعي مُرهِق. فالمُنتظَر يُمثِّل مركز القوة، والمنتظِرُ يقبع في أطرافها. لذا يقول بورديو: إنّ الزمن نفسَه يُصبح أداةً للهيمنة؛ فالقدرة على جعل الآخرين ينتظرون ما هي إلا تعبير عن سلطة رمزية. وهنا يتجلّى الانتظار في صورة بنية ثقافية تشي بتنظيم العلاقات لا فراغًا فرديًّا فحسب.
ومع ذلك، فقد يبدو الانتظار في صورته الأعمق تعليقًا للزمن. ففي كل لحظة انتظار يتوقّف الإنسان عن الفعل، ليصبح أسيرًا لـ”الآن المؤجَّلة”. إنّه يبدو كما لو كان يُحرق الزمن في اللا شيء.
لقد تحدّث هوسرل عن “الزمن الداخلي للوعي”، وكأنّ الماضي والحاضر والمستقبل يتداخلون في مسار واحد؛ حيث لا يذوب الماضي ولا يتشكّل المستقبل إلا من خلال حاضر مُمتد. غير أنّ الانتظار يقلب هذه المعادلة ليجعل الحاضر هشًّا وباهتًا. ذاك أنّ الوعي يتوه في الحاضر فيجعل المستقبل مُتلكّئًا في القدوم.
أمّا كيركغارد فيربط الانتظار بالقلق، إذ يرى أنّ الإنسان حين ينتظر فإنّما يقف أمام لا نهائية بلا يقين، إنّه كمن يقف على حافة هاوية لا يدري متى يهبط إلى القاع.
وفي المقابل يطرح سارتر رؤية وجودية فاعلة تروقني كثيرًا، إذ الإنسان محكوم عليه أن يكون حرًا. فهل يُمكن إذن أن نستثمر فضاء الانتظار؟ فنتحوّل من كائنات تنتظر إلى كائنات تبني وتُؤسس وتصنع معنى في قلب العبث؟ هنا فقط يتحوّل الانتظار إلى فعل مقاومة وجودي. فيبدو اختبارًا دائبًا لمدى قُدرتنا على تحمّل المجهول وصناعة المعنى في الفراغ، وتحويل السكون القسري إلى حركة داخلية نحو التغيير.
وفي الحديث الشريف ما هو مصداق ذلك مع فارق الغايات؛ حيث اليقينُ والإيمانُ بالمَعَادِ والحساب. يقول رسول الله : «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها». إنها ثقافة أدعى للعمل والبذل تعبدًا لله حتى آخر رمق.
ولكن، ماذا حين يطيش الانتظار؟
في مسرحية “في انتظار غودو” لصمويل بيكيت، يبلغ الانتظار ذروته العبثية؛ حيث إنّ ثمّة شخصيات تنتظر ما لا يأتي أبدًا. فيبدو الغياب هنا أبلغ من الحضور. وأمّا غودو بوصفه رمزًا فإنّه يظلّ غائبًا، ومن المفارقة أن يملأ غيابُه المسرح حضورًا. فيظهر الانتظار لا بوصفه حالةً زمنية، بل بوصفه بنيةً وجودية تفضح هشاشة الإنسان أمام معنى الغياب. الأمر ذاته في الشعر العربي القديم؛ حيث نجد أثر الانتظار في أطلال المحبوبة حين يقف الشاعر ساعات طويلة يترقّب ما لن يعود: “ألا أيها الطللُ البالي سلامٌ عليك”، وقول آخر: «وَكَيفَ يُجيبنِي رسمٌ مُحِيلٌ، بعيدٌ لا يَرُدُّ على سؤالي».
وبالطبع لا يخلو الانتظار من بُعدٍ قيمي، فهو امتحان وتمحيص؛ حيث يبدو رابطة بين الصبر والفلاح، قال تعالى: “واصبر وما صبرك إلا بالله” (النحل: 127).
ففي ثقافتنا الإسلامية يكتسب الانتظار بُعدًا إيمانيًا عميقًا. إذ الانتظار ليس سلبية مُطلقة، بل قد يكون صبرًا يُبتغى به الأجر والمثوبة، أو باعثًا على تحمّل ظرف قاسٍ رجاء زواله. إنه صبر يعانق الأمل حتى لو بدا شحيحًا.
ومع ذلك فإنّ الانتظار ليس فضيلة دائمًا؛ فأحيانًا يستحيلُ إلى يأس وقنوط. وهنا يبرز البُعد المأساوي، حيث يخبو الأمل، ويبدو قبولاً باللا جدوى. وخروجًا من خسارةٍ إلى خسارتين.
أخيرا يُمكن القول إنّ ثقافة الانتظار ليست إلا انعكاسًا لهشاشتنا الوجودية. فرحلتنا في الحياة ليست سوى انتظار طويل. إننا ننتظر الوظيفة والطبيب والخبّاز والقطار والحب والخَلاص، وربما الموت. وما بين هذا وذاك نتعلّم أنّ الانتظار ليس هامشًا ولا حيادًا، بل إنّه الحياة ذاتها، وكأنّه ليس إلا تأويلاً للزمن، فإمّا أن نربح فنصوغ فيه معنى الصبر والرجاء، وإمّا أن نخسر فنقنط ونستسلم فيه لعبث اللا جدوى والفناء. إذن فلنكن قريبين دائمًا وأبدًا من رحمة الله، ومن قوله تعالى: “إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب” (الزمر: 10).