اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ١٤ تموز ٢٠٢٥
د. أريج الجهني
في الرابعة عصرًا، وأنا أتجول بين أروقة متحف اللوفر، وجدتني لا أنظر إلى القطع الفنية الخالدة فقط، بل أتأمل في مشهد آخر لا يقل دهشة: الحشود. كم عدد الزوّار؟ لا أعلم تحديدًا. لكنني أكاد أجزم أن اللوفر يستقبل مئات الآلاف يوميًا؛ زحام لا يُطاق في بعض اللحظات، لكنه زحام ذو مغزى.. إنه زحام الجمال. اصطفاف في حضرة الموناليزا.
التجمهر الثقافي ظاهرة إنسانية عميقة الجذور، فما الذي يدفع بشرًا من جنسيات وثقافات وأعمار مختلفة، إلى الوقوف لساعات لالتقاط صورة سريعة مع لوحة عاشت لقرون؟ لماذا تصبح 'رؤية الموناليزا' هدفًا سياحيًا عابرًا لحدود الفن؟ هل نأتي إلى المتاحف لنرى، أم لِنُرى؟ هل نحن شهود على الجمال، أم شركاء في تصنيعه من خلال توثيق لحظة لقائنا به؟ أمام لوحة واحدة صغيرة الحجم، رسمها ليوناردو دافنشي قبل أكثر من 500 عام، يصطف العالم، تلك الابتسامة الغامضة ليست وحدها ما يجذب الناس، بل الرمزية الجمعية للفن الخالد. الموناليزا ليست أجمل لوحة في اللوفر– بل قد لا تكون ضمن أفضل عشر لوحات فنيًا لكنها الأكثر 'جاذبية للتمجهر'، لأنها تحولت إلى رمز ثقافي عالمي.
ما الذي يعنيه هذا؟ يعني أننا، كبشر، ما زلنا نبحث عن المعنى، عن الرموز، عن تلك اللحظة التي نشعر فيها أننا لمسنا شيئًا من الخلود. وفي عصر السرعة، يصبح المتحف وقفة صمت. لحظة بصرية بطيئة تحاول أن تنتزعنا من زحام الشاشات إلى زحام الأرواح. ماذا لو أصبحت المتاحف هي المنازل الجديدة للروح؟ أماكن التأمل الحديثة للذائقة، حيث تأتي الحشود لا لتؤدي طقوسًا، بل لتستعيد ذاكرتها البصرية والروحية من بين أجنحة الفن، فالفن، وإن لم يكن ضرورة معيشية، إلا أنه ضرورة وجودية.
في ختام الرحلة داخل اللوفر، نغادر بأكثر من صورة أو لحظة مرئية. نغادر ومعنا فكرة: أن الفن، حتى لو كان بصريًا صامتًا، هو لغة جماعية نسافر إليها كمحفل ثقافي. إن الكم الهائل من الزائرين أمام اللوحة هو أكثر من مجرد ارقام، إنها ببساطة شعبية الجمال، شعبية الرمز، وشعبية اللقاء الجماعي مع التاريخ.
كم تجلب هذه الابتسامة للمتحف؟ لو حسبنا عدد الزوار السنوي الذين يأتون خصيصًا لرؤيتها (~7 ملايين)، وسعر تذكرة الدخول العادي (التي وصلت مؤخرًا إلى نحو 22 يورو)، فإن ابتسامة الموناليزا تُستثمر في قيم مالية تُقدّر بما يقارب 150 مليون يورو سنويًا- من إقبال الزوار لرؤيتها فقط. تخيّل أن هذه الابتسامة الصغيرة تولّد مثل هذا التدفق البشري والاقتصادي إنها أكثر من لوحة، هي قصة وصول إلى القلوب والبطاقات البنكية معًا.
أخيراً؛ خلف الأرقام، هناك شيء لا يُحسب، تلك النظرة التي وصفها جورج برنارد شو بأنها 'نظرة من كانت تراقبك منذ ألف عام'، هي ما يجعل الوقوف أمام اللوحة تجربة لا تُقاس بثمن، الموناليزا ليست مجرد لوحة، إنها لحظة شعورية عالمية، تتكرّر كل يوم مع كل زائر، ثم تترك أثرًا لا يُمحى.