اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢١ تموز ٢٠٢٥
د. أريج الجهني
يقبع النجاح اليوم ما بين صرامة التراكمية ونشوة الفقاعات، وهنا أستحضر قول المفكر الفرنسي إنطوان دو سانت اكزوبير: 'ما هو مهم لا يُرى'. نعم، هناك نوع من النجاح لا يُحتفل به في بدايته ولا يُلتقط في عدسات التصفيق العام، إنه النجاح الذي يولد داخل الإنسان بعيدًا عن الأضواء يتشكل بهدوء ويتراكم بصمت حتى يبلغ نقطة الانفجار النوراني ذات يوم، النجاح التراكمي ليس حدثًا بل ظاهرة ممتدة لا تُقاس بالسرعة بل بالثبات، يشبه الماء حين ينحت في الصخر كل يوم قطرة، ثم يأتي اليوم الذي يُشق فيه الطريق، الدراسة التي قدّمتها البحرية الأميركية عام 1964 عن الاحتمال التراكمي للكشف، تقدم نموذجًا رياضيًا لفهم هذا المعنى، إذ تشير إلى أن احتمالية الكشف عن الهدف تزداد كلما زادت المحاولات حتى تصبح حتمية رياضية بغض النظر عن إخفاقات البداية، وكأن الرسالة هي أن التكرار المنظّم لا يخون الذين يؤمنون به حتى لو تأخر الإنجاز، فإن التراكم في ذاته ضمان داخلي لوصول قادم لا محالة.
الخطوة الصغيرة نحو المجد الكبير، حين كتب جيمس كلير عن العادات الذرية، وحين أسّس BJ Fogg نموذجه الصغير من جامعة ستانفورد، لم يكونا يكرّسان فلسفة السهولة بل العُمق، العادات الصغيرة ليست ضعفًا بل استثمار طويل المدى، الفارق أن أثرها غير مرئي في اللحظة لكنه متراكم ومتضاعف عبر الزمن، من يكتب ثلاث جمل يوميًا سيجد بعد عام أنه ألّف كتابًا، من يقرأ خمس صفحات فقط سيجد أن وعيه توسّع دون أن يشعر، ومن يصلي ركعتين بتركيز في كل صباح سينحت روحًا ثابتة رغم العاصفة. هذه العادات تصنع جسور النجاح الهادئ لأنها لا تستهلك طاقتك ولا تتطلب قفزة درامية بل تستدعيك فقط أن تحضر كل يوم لتقول للحياة أنا هنا، العادة الصغيرة ليست إنجازًا واحدًا بل إعلان ولاء لفكرة أكبر، وهي أن التغيير لا يحتاج بطولة بل التزامًا.
من هنا يأتي سؤال ملح: هل التوجيه الذاتي هو مفتاح الفَرق؟ في دراسة من جامعة خرونينجن الهولندية تابع الباحثون أداء طلاب الطب خلال عشرة أسابيع من التقييم التراكمي، ووجدوا أن 70 ٪ من أصحاب البداية الضعيفة تحسنوا بنهاية الدورة، لكن ليس لأنهم كانوا أذكى بل لأنهم امتلكوا مهارة واحدة: التوجيه الذاتي، الطلاب الذين فشلوا في تحسين أدائهم رغم الفرص كانوا يفتقرون إلى هذه المهارة بالذات القدرة على مراقبة النفس والتخطيط والاستمرار بدون رقابة خارجية، هذا ما يميز النجاح التراكمي عن الفقاعي، أن الفقاعي يعتمد على حماسة لحظية، أما التراكمي فيحتاج إلى ذات تقود نفسها من الداخل، الشخص الذي يمتلك التوجيه الذاتي لا ينتظر أن يتم تذكيره أو دفعه أو التصفيق له، بل يعرف لماذا بدأ ويذكّر نفسه يوميًا بأنه مستمر لا من أجل النتيجة السريعة بل من أجل البناء الطويل.
إذن لو أردنا رصد ثلاثية النجاح الحقيقي، فإن النجاح التراكمي لا يصنعه التكرار فقط بل يجمع بين ثلاث قوى متكاملة، أولها: التكرار المنظم الذي لا يتوقف، وثانيها: العادة الصغيرة التي تُمارَس كل يوم، وثالثها: العقل الذي يقود نفسه دون أن ينتظر أحدًا، هذه الثلاثية حين تكتمل يصعب أن يُهزم صاحبها؛ لأن كل محاولة تُسجل، وكل عادة تبني، وكل خطوة تقود لخطوة أخرى، حتى لو بدت الطريق طويلة فإنها تتقلص حين يعرف الإنسان أن العظمة لا تأتي فجأة بل تُزرع كل صباح، الذين يبنون أنفسهم على هذا المبدأ لا يظهرون بسرعة، لكن حين يظهرون فإنهم لا يرحلون، لأنهم لم يأتوا من الخارج بل نبتوا من الداخل. هذه هي الفكرة التي تستحق أن نعيد غرسها في وعينا وفي الجيل القادم، أن النجاح ليس صدفة ولا شهرة ولا ترند بل أثر يُراكم يومًا بعد يوم حتى يصبح هوية، دمتم بخير.