اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ١٦ تموز ٢٠٢٥
الرياض - الثقافي
يشهد العالم الثقافي تحولًا نوعيًا في العلاقة بين الإنسان والإنتاج الإبداعي نتيجة دخول تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجالات متنوعة تجاوزت الاستخدامات التقنية إلى الحقول الفنية والثقافية، فقد أصبح للذكاء الاصطناعي دور فاعل في إنتاج النصوص الأدبية وتأليف الموسيقى وإنشاء اللوحات الفنية وترجمة الأعمال الثقافية، مما دفع المؤسسات والممارسين إلى إعادة تقييم المفاهيم التقليدية المتعلقة بالإبداع والملكية الفكرية والمعايير الجمالية.
في هذا السياق، لم يعد الذكاء الاصطناعي يُنظر إليه بوصفه أداة مساعدة فحسب، بل أصبح شريكًا في العملية الإبداعية عبر نماذج توليد المحتوى التي تعتمد على تحليل الأنماط اللغوية أو البصرية وإعادة إنتاجها ضمن سياقات جديدة، وهو ما يُثير تساؤلات جوهرية حول طبيعة العمل الإبداعي وجدلية الإنسان والآلة ودور الخبرة الشخصية في التكوين الثقافي.
تعتمد بعض الأنظمة الحديثة على تقنيات التعلّم العميق التي تتيح لها إنتاج نصوص وأعمال فنية بناء على بيانات سابقة وتغذيات راجعة من مستخدمين بشريين، ما يجعلها قادرة على محاكاة أنماط محددة من الإبداع دون أن تمتلك بالضرورة وعيًا أو إحساسًا، وهو ما يدفع إلى التفريق بين الإبداع التقني والتجربة الإنسانية التي تقوم على التراكم المعرفي والانفعال الذاتي والاستجابة الحسية.
تباينت المواقف تجاه هذا التطور، حيث يرى عدد من الممارسين والباحثين أن تقنيات الذكاء الاصطناعي تفتح آفاقًا جديدة لتوسيع نطاق التعبير الفني وتُوفر أدوات غير مسبوقة تسمح للفنان أو الكاتب بتجربة أساليب مبتكرة واختبار تركيبات جمالية يصعب تنفيذها بالوسائل التقليدية، بينما يعبّر آخرون عن قلقهم من التبعات المترتبة على هيمنة النماذج الرقمية على الإنتاج الثقافي ومن احتمالات تراجع القيم الأصيلة المرتبطة بالتجربة الإنسانية والإبداع الذاتي.
وفي هذا الإطار، بدأت بعض المؤسسات الثقافية والأكاديمية حول العالم اتخاذ إجراءات عملية لمواكبة المتغيرات، أبرزها إدراج فئات خاصة بالأعمال المنتجة باستخدام الذكاء الاصطناعي ضمن المعارض والجوائز وتطوير أطر تنظيمية لحوكمة استخدام التقنية في مجالات الإبداع، كما أن هناك توجهات نحو وضع معايير أخلاقية تحمي المضمون الثقافي وتُحافظ على حقوق المؤلفين والمستخدمين في ظل تنامي استخدام الخوارزميات.
تعكس هذه التحولات المتسارعة الحاجة إلى صياغة سياسات ثقافية وتشريعية تستوعب التطورات التقنية دون أن تُخل بمنظومة القيم الثقافية أو تتسبب في إضعاف مكانة الإنسان كمصدر للمعنى والتأويل، خاصة وأن الممارسات الثقافية لا تقتصر على الإنتاج فحسب بل تشمل التلقي والتأويل والتمثل، وهو ما لا تستطيع النماذج الحاسوبية الإحاطة به بذات العمق.
يُنظر إلى هذا التداخل بين التقنية والثقافة بوصفه ميدانًا جديدًا لا يزال في طور التشكل وأن التعامل معه يتطلب وعيًا نقديًا ورؤية متوازنة تراعي الفرص التي يتيحها الذكاء الاصطناعي من جهة، والتحديات التي يفرضها على المنظومة الثقافية من جهة أخرى، لا سيما في ظل تسارع التطور التقني وتعدد التطبيقات المرتبطة بالمجال الإبداعي.
تُعد هذه المرحلة مفصلية في تاريخ الثقافة العالمية، فهي تُعيد طرح الأسئلة الجوهرية حول معنى الإبداع وطبيعة العمل الثقافي وحدود تدخل التقنية في التعبير الإنساني، كما أنها تستدعي مراجعة شاملة للأدوات المفاهيمية والقانونية التي تم تطويرها في سياقات ما قبل الثورة الرقمية، وذلك بهدف تطوير منظومة جديدة أكثر اتساقًا مع واقع الإنتاج المعاصر.
وفي ظل استمرار هذا التقدم فإن مستقبل العلاقة بين الإنسان والآلة في المجال الثقافي يظل مفتوحًا على احتمالات متعددة تتراوح بين التكامل والتنافس ويعتمد مسارها على كيفية التوظيف والتنظيم والتأطير الذي ستتخذه المؤسسات والمجتمعات تجاه هذه الظاهرة الناشئة.