اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ١٩ أيلول ٢٠٢٥
د. حنان الجعيدان
المتحف تجربة فكرية مختلفة، لكنّ معظم المتاحف تجعل جمهورها مستهلكاً للمعرفة وليس منتجاً لها، يعيد المتحف تشكيل الرواية «السردية» لنا كزوّار، فيختار لنا ما نراه عبر ما يرويه وبما يتوافق مع خطابه. يعتقد الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أن المؤسسات الثقافية بما فيها المتاحف ليست محايدة، بل هي أدوات لإعادة صياغة المعرفة وترسيخها كحقيقة. وفقاً لهذا المنظور، لا يوجد «عرض بريء»، كل قطعة يتم اختيارها وكل طريقة يتم بها ترتيب المعروضات تحمل بُعداً أيديولوجياً، فيختار المتحف كيف يقدم التاريخ، ويسرد الماضي، وكيف يشكل فهمنا كزوّار للهوية والمعرفة من خلاله، وفي كل مرة نرى فيها قطعة «صامتة» فنحن في الواقع «نستمع» إلى سردية صيغت بعناية من قِبل المتحف ربما لتدهشنا أو لتقنعنا أو لتخفي عنا شيئاً، حتى طريقة التجول في المتحف من أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟ وفي أي اتجاه نسير؟ ما القطع التي تقابلنا أولاً؟ وما القطع التي تودّعنا؟ هل تَتَرك لدينا إجابة أم سؤالاً؟ كل ذلك اُختير بعناية من قِبل المتحف وله تأثيره الجوهري في تشكيل تجربتنا ووعينا كزوار وكمتلقين. إذن، كيف نرى كمتلقين هذه المعروضات في المتاحف؟ هل يعكس المتحف تفكيرنا أم أنه يُشكّلنا؟
إنّ زيارة المتحف تجربة تجعلك تفكر في علاقتك بالتاريخ، وعلاقتك بنفسك، وعلاقتك بمجتمعك، إنها تجربة لاكتشاف وإنتاج الأفكار والأسئلة التي تسألها نفسك، فعلى اعتبار أن العرض المتحفي هو سرد قصصي، إذن اسأل نفسك عند زيارتك للمتحف: من أنا في هذه الرواية المعروضة؟ ما علاقتي بما أراه؟ لماذا تُعرض هذه القطعة الآن وبهذا الشكل وفي هذا السياق؟ ما الذي يُقال لي وما الذي لا يُقال؟ لأن كل قطعة تُعرض وكل قصة تُروى في المتحف لا تعني شيئاً دون وعي المتلقي ومشاركته بإضافة قصتة أو في طرح تساؤلاته عنها. لذلك، تحاول بعض المتاحف اليوم إعادة التفكير في دورها، فبدلاً من أن تكتفي بدور العارض الموجّه بدأت تتساءل عن علاقتها بالمجتمع، وقدرتها على تمثيل التنوع الثقافي بشكل عادل وشامل. تُبذل اليوم محاولات في متاحف عدة حول العالم لإعادة التوازن السردي، فتعيد تعريف من يروي القصة ومن يُروى عنه، بعض المتاحف بدأت في إشراك المجتمعات المحلية في تنظيم المعارض، والبعض الآخر بدأ في عرض وجهات نظر متعددة حول نفس القطع، على سبيل المثال، متحف Smithsonian في واشنطن بدأ في تقديم قصص السكان الأصليين الأميركيين من خلال رواية قصصهم الخاصة، وليس فقط من خلال السرديات الأكاديمية التقليدية، هذه التجربة لا تهدف إلى إدانة التاريخ بل إلى مصارحته ومن ثم إعادة تصوره بشكل يُنصف من غابوا طويلاً عن المشهد. متاحف أخرى، مثل: متحف أفريقيا في بلجيكا Royal Museum for Central Africa، بدأ في مراجعة تاريخه الاستعماري، وأصبح المتحف يُظهر بوضوح مسؤولية التأثير الذي أحدثته دعايته السابقة للاستعمار على المجتمع متعدد الثقافات اليوم والسياق العنيف الذي انتُزعت فيه هذه القطع من القارة الأفريقية، ويطرح المتحف تساؤلات حول تقديم تاريخ القارة الأفريقية للجمهور بعد قرون من التحيز الغربي. هذا التوجه الإنساني لا يعني تخلّي المتاحف عن العِلم، بل يعني الاعتراف بأن الحقائق التاريخية لا يمكن أن تُقدّم دون أصوات أصحابها، وأن العرض العادل يتطلب إنصاتاً حقيقياً لوجهات نظر متعددة، ومثلهما في Zeitz Museum of Contemporary Art Africa متحف زيتز للفن المعاصر الأفريقي في كيب تاون بجنوب أفريقيا، المتحف الذي يمثل «ديموقراطية ثقافية»، حيث يشترك جمهور كيب تاون في التعبير الفني عن أنفسهم والتعبير عن ما يمثله لهم مجتمعهم المدني الذي ينتمون إليه.
ومع كل الجهود المبذولة المنادية للتنوع وتشجيع مشاركة الجمهور، لا يزال الكثير من المتاحف يفرض على الزوار أُسلوب التفكير المُوجّه في تَلقّي المعلومات والسرديات المعروضة، لا تزال معظم المتاحف كمؤسسات تعتمد على الهيمنة، حيث تَعرِض سرديات وقصص في أحيانٍ كثيرة تكون متحيزة، إذ إنها تُحدد ثقافة المجتمع المحلي، وكيف يرى التاريخ والقصص التي تُروى عنه وعن القطع والمعروضات، ومن يملك الحق في روايتها، وكيف يتلقاها هذا المجتمع. عندما تُعرض القطعة الأثرية في خزانة زجاجية كعمل فني محايد، وهي في الأصل جزء من معبد أو مدينة، فإنّ ذلك يفقدها جزءاً مهماً من معناها وهويتها، فتصبح «شيئاً» منفصلًا عن بيئته الأصلية وعن سياقه التاريخي، وتكون تأويلاً مفروضاً علينا كمتلقين، على سبيل المثال عرض تمثال فرعوني في لندن، أو قطعة خزف صينية في باريس، مما يُلغي أهمية النقاش عن جمال القطعة أو قِدمها، ويصبح المهم هنا الحديث عن معناها الذي تحمله في سياق ذلك العرض، مِن الأساس مَن قرر أن تبقى هنا؟ وماذا يعني أن تُعرض هذه القطع كجزء من «التراث العالمي» بينما هي في الأصل رمز لهوية محلية وثقافية تُعرض بعيداً عن مكانها الأصلي؟ لذلك نجد أن المتحف صار أشبه بـ»محررٍ» كبير للتاريخ لا يُقدم القصة كاملة إنما يفرض القصة التي يريدها أن تُسمع.
خلاصة الحديث، أرى أنّ المتحف يجب أن يكون مرآة تعكس كيف يرى المجتمع نفسه، وماضيه، وهويّته، ويعيد التفكير في علاقة زواره بالتاريخ وبالآخر. ربما لا يملك المتحف إعادة كتابة كل ما فُقد، لكن المتحف يملك خيار أن يُصغي، وأن يُعيد النظر، وأن يسمح لذكريات الزوار وتجاربهم بأن تنمو، لا في صمت المتاحف إنما في ضجيج الأسئلة التي لا تزال تنتظر الاجابة.