اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٣ تشرين الثاني ٢٠٢٥
د. عبدالله بانخر
اليوم، لم تعد قيمة المدن تُقاس بكثافة مبانيها وعدد مركباتها فحسب. بل إن حقبة جديدة قد بدأت، يُعاد فيها تعريف نجاح العاصمة بمقاييس أكثر عمقاً وإنسانية: جودة الحياة ومستوى الإبداع المنتج. إن التحول من العمران الوظيفي الصامت إلى العمران المُؤنسن الجاذب ليس ترفاً اجتماعياً، بل هو قرار اقتصادي واستراتيجي حاسم. هذا المقال يغوص في العلاقة غير القابلة للفصل بين هذه الأبعاد الأربعة: كيف تُحوّل مبادئ أنسنة المدن الشوارع والساحات إلى رافعة أساسية حية لاحتضان وازدهار اقتصاد الإبداع؟ وكيف يُصبح تصميم مقعد في حديقة، أو ممر آمن للمشاة، استثماراً مباشراً يرفع من جودة حياة السكان ويُطلق طاقتهم الابتكارية؟ إن الإجابة تكشف عن نموذج تنموي جديد يرى في الإنسان، ورفاهيته، أثمن أصول المدينة.
'تأصيل المفاهيم: من أين جاءت الفكرة؟'
لتحليل العلاقة بين محاور المقال، من الضروري تحديد المفاهيم الأساسية وتأصيلها التاريخي: أنسنة المدن (Urban Humanization): تعود البدايات العملية لهذا المنهج إلى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي (خاصة 1960 - 1970). ويُعد المعماري الدنماركي يان جيل (Jan Gehl) أحد أبرز روادها. جودة الحياة (Quality of Life - QoL): اكتسب المصطلح أهميته الكبرى في فترات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأت منظمة الصحة العالمية (WHO) في تطوير أدوات قياسه في التسعينيات. الاقتصاد الإبداعي (Creative Economy): يُنسب صياغته الشاملة إلى المفكر البريطاني جون هوكينز (John Howkins)، في كتابه الرائد 'The Creative Economy' الصادر عام 2001. الاقتصاد البنفسجي (Purple Economy): يركز على دمج الأبعاد الثقافية والإنسانية في التنمية الاقتصادية، ويرتبط بتحسين الرفاهية الاجتماعية.
العمران: أم الفنون وإطار الثقافة
إذا كان المسرح يوصف بـ'أبو الفنون' لأنه يجمع الأدب والموسيقى والتمثيل في لحظة واحدة، فإن العمران (Urbanism) يوصف بـ 'أم الفنون' (أو 'أم العلوم والفنون')، لأنه يمثل الوعاء والمساحة المادية التي تُقام وتُحتوى فيها جميع الفنون والعلوم الأخرى. العمران ليس مجرد وظائف إسكانية؛ بل هو الخلفية الدائمة للحياة الثقافية والإبداعية. هذا الاندماج الثقافي يعزز القيمة المضافة للاقتصاد الإبداعي، حيث أن جاذبية المدينة العمرانية والثقافية هي ما يغذي صناعات السياحة والتصميم والمعرفة.
'ترتيب الفنون: وفقا لأشهر التصنيفات'
لتكتمل الرؤية حول علاقة العمران (أم الفنون) بجميع الأشكال الإبداعية، لا بد من الإشارة إلى الترتيب العددي المتعارف عليه للفنون. هذا الترتيب، الذي جعل السينما هي 'الفن السابع'، هو تصنيف يعود الفضل في نشره للمنظر الإيطالي ريتشوتو كانودو (Ricciotto Canudo) في بيانه الشهير 'ميلاد الفن السابع' الصادر عام 1923 (والمُصاغ مبدئياً في 1911). اعتمد كانودو على تقسيم الفنون إلى فنون تعتمد على المكان وفنون تعتمد على الزمان. وبذلك يصبح الترتيب التقليدي وفق هذه المدرسة كالتالي: العمارة (1)، النحت (2)، الرسم والتصوير (3)، الموسيقى (4)، الأدب والشعر (5)، الرقص والحركة (6)، وأخيراً السينما (7).
وفي العصر الحديث، ظهرت تصنيفات أحدث استجابة للتقدم التكنولوجي وظهور الأشكال التعبيرية الجديدة؛ فغالباً ما يُصنَّف 'التصوير الفوتوغرافي' كـ 'الفن الثامن'، بينما تتنازع 'القصص المصورة/الكوميكس (Bande Dessinée)' و'ألعاب الفيديو التفاعلية' على لقب 'الفن التاسع'. هذا التوسع في التصنيف يؤكد أن الاقتصاد الإبداعي مستمر في النمو والتشابك مع البيئة العمرانية التي تحتضنه.
'من العمران إلى الأنسنة: تحول الرؤية'
لقد أدى إدراك هذا الدور العميق للعمران إلى ضرورة التحول. كان العمران التقليدي، خاصة خلال فترات التوسع السريع، يركز في كثير من الأحيان على تلبية الاحتياج الوظيفي وتسهيل حركة المركبات، مما نتج عنه أحياء ومكونات عمرانية صماء تفتقر إلى البعد الإنساني والتفاعل الاجتماعي. أنسنة المدن هي النهج الذي يعيد توجيه بوصلة التخطيط العمراني ليصبح أكثر ملاءمة وجاذبية للسكان. تقوم الأنسنة على مقياس الإنسان، وتوفير الفراغات العامة، ودمج الهوية الثقافية.
'أنسنة المدن وجودة الحياة: علاقة السبب بالنتيجة'
تُعتبر أنسنة المدن هي الآلية الرئيسية التي تُترجم مفهوم جودة الحياة إلى واقع ملموس داخل البيئة الحضرية. عندما تتبنى المدينة مبادئ الأنسنة، فإنها تحقق مؤشرات مرتفعة في جودة الحياة عبر تعزيز الصحة والرفاهية (توفير مسارات المشي والمساحات الخضراء)، وتوفير الأمان والشمولية لجميع الفئات، وتقوية التفاعل الاجتماعي في الفراغات العامة، مما يجعل الحياة اليومية في المدينة أسهل وأقل إرهاقاً.
'أنسنة المدن واقتصاد الإبداع: البيئة الخصبة للابتكار'
للمدن المُؤنسنة تأثير عميق على اقتصاديات الإبداع (Creative Economy) وتنافسية المدن على المستوى العالمي. إن البيئة العمرانية التي تراعي الإنسان هي الأرض الخصبة التي تُطلق العنان للابتكار. فهي تساهم في جذب المواهب، وتغذية الابتكار عبر التفاعل الاجتماعي العفوي في الأماكن العامة، وتنويع القاعدة الاقتصادية من خلال تنشيط الأسواق المحلية وجذب الاستثمارات في قطاعات الترفيه والسياحة والثقافة التي تتطلبها جودة الحياة العصرية.
في الختام، يتجاوز مفهوم أنسنة المدن كونه مجرد اتجاه معماري، ليصبح استراتيجية شاملة للاستدامة الحضرية. إن دمج الأبعاد الإنسانية في التخطيط العمراني يُعالج في جوهره معضلة التنمية: فهو يضمن جودة حياة مرتفعة، ويؤسس لاقتصاد إبداعي مُزدهر قادر على المنافسة عالمياً. المدن التي تضع الإنسان كأثمن أصولها – عبر ممرات المشاة الآمنة والساحات الحيوية – هي المدن التي تستثمر بذكاء في مستقبلها الاقتصادي. إن المقياس الحقيقي لنجاح أي مدينة اليوم لم يعد في ارتفاع مبانيها، بل في مدى قدرتها على أن تكون 'إنسانية أولاً'.










































